لم تزل صفحات التراث الإنساني زاخرة بالأحداث والشخصيات وتقلب الأحوال والظروف والممالك، والتراث العربي جزء لا يتجزأ من تاريخ البشرية ويحمل في طياته الكثير من الأطياف والألوان. مثل أغلب كتب الأدب والتراجم والآثار، تتطرق الكتب المعنية بالتأريخ للتراث العربي إلى تراجم الشخصيات إما من خلال الشخص بنفسه أو من خلال مواقفه وقصصه وأشعاره أو من خلال سرد الأحداث التي يشارك فيها أو يكون معاصرا لها مؤثرا في سياقها أو غير ذلك من المداخل المعروفة لدى مدمن النظر في مثل هذا النوع من التصانيف، لكن الناس تلتفت -عادة - لقصص النابهين وأخبار العظماء من البشر أكثر من غيرهم، فترسخ في الذاكرة قصص العظماء وتُلاحق بالبحث والتنقيب مواقف النابهين في شتى المجالات، ولكن تاريخاً آخر يمر عليه الأكثرون مرور الكرام، وهو التاريخ الذي يحلو للبعض أن يسميه التاريخ «المهمّش» أو «الهامشي»، الذي يقابل التاريخ «المتن». في طيّات ذلك التاريخ المهمّش كثير من المتعة والتشويق التي تصطف جنبا إلى جنب مع الفائدة والعبرة والعظة، ولكن الأكثرين لا يتطرقون لهذا النوع من التاريخ ولا يذكرونه إلا في سياق الطرفة والدعابة لا في سياق الدراسة والبحث واستخراج الحقائق التاريخية ورسم تصوّر واقعي لما كان عليه المجتمع العربي في فترات متباعدة من مسيرته. لئن كانت خزائن الواقع ملأى بالأحداث والمواقف والحكم، فإن خزائن التاريخ زاخرة بما هو أكثر وأكثر، وفيها من التنوع والغرابة ما لا يكاد أن يدركه باحث أو يحيط به دارس، وما ذاك إلا لطول الزمان وكثرة الأسفار والكتب التي لا تغادر المكب على تقليب صفحاتها أمارات الدهشة كلما اكتشف جانبا مغيّبا أو «مهمشا» لا يتم التطرق له ولا يتم تناوله بجانب الأحداث الكبرى في فترته التاريخية. يقول العلماء إن المثال يوضح القاعدة، ولنأخذ مثالا على هذا الفترة الزمنية التي يسميها بعض المفكرين العرب «فترة التدوين» وهي الفترة التي تم فيها تدوين السنة النبوية كعنوان أساس لتلك الفترة كما تم فيها تدوين غالب التراث العربي العلمي والفقهي، وهي الفترة التي عاش فيها الإمام الشافعي والإمام أحمد بن حنبل من الفقهاء، وعلي بن المديني ويحيى بن معين من المحدّثين، وغيرهم كثير من العلماء في شتى صنوف المعرفة والعلم، كما كانت تلك الفترة فترة توسّع سياسي للدولة الإسلامية وفيها عبارات مشهورة حول توسع الدولة الإسلامية منها حديث الخليفة العباسي هارون الرشيد - وقيل ابنه المأمون - للسحابة أن تمطر أنّى شاءت لأن خراجها سيأتيه!. في تلك الفترة التي كانت تمور فيها بغداد بالحركة العلمية والسياسية كعنوان رئيس لها، كانت هناك حياة أخرى تضج بالحياة والعنفوان وتزاحم الصورة السابقة في المشهد المعيش آنذاك لا في المشهد التاريخي الذي صوّر لنا، الصورة الأخرى هي صورة بغداد اللاهية والمغنية والراقصة والضاحكة، بغداد الزندقة والإلحاد والدهريّة، بغداد الخلافات والصراعات والمشاحنات، بغداد الحرية العقلية والأخلاقية، بغداد الاستبداد والظلم والعسف والجور، كل هذه المهمشات التي لم تصل بصورتها الكاملة للإنسان العادي مفيدة جدا في رسم تصوّر طبيعي لتاريخنا بعيدا عن القدسية التي يحاول البعض إلقاء عباءتها على كتفي التاريخ، وبعيدا عمّن لا يقرأ التاريخ إلا بعين واحدة لا ترى فيه إلا ما يعجبه، وهو يمارس بذلك خداعا للنفس لأنه يفتش عمّا يقنعه بأن قناعاته المعاصرة - رغم لا إنسانيتها واستحالة وجودها في واقع بشري - كانت موجودة على الأرض يوما، لذلك فهو يقرأ من التاريخ ما يعجبه ويغض الطرف عن الباقي، فيتعلّق ب«متن» يختاره هو ويترك «هامشا» يهمشه هو أيضا. حين نقترب من أرضية تلك المرحلة التاريخية «مرحلة التدوين» بسنواتها الطويلة، نجد التاريخ المهمش فيها يحتوي على تضاريس مختلفة ومتضادة ومتنوعة، ومما نجده هناك، بداية فشوّ «الشحاذة» كظاهرة اجتماعية تنوّعت أساليبها وطرائقها ونرى كم حاول بعض المحتالين ابتكار أساليب متطوّرة - حسب زمنها - لاستجداء الناس وأخذ أموالهم وأعطياتهم. كان الشعراء قد تركوا فخرهم القديم بالقبيلة والذات إلى ثقافة الاستجداء والشحاذة حتى أصبحت «الرغبة» أو الشحاذة والاستجداء أحد قطبي الشعر في ذلك العصر، والقطب الآخر هو «الرهبة» حسب رؤية الدكتور الغذامي في كتابه «النقد الثقافي». ولئن كان الشعراء يمارسون «شحاذتهم» لدى الطبقة الميسورة من المجتمع، فيطلبون «العطاء» لدى الخلفاء والأمراء والوزراء و«علية القوم»، فإن غيرهم كان يمارسها في المساجد وآخرون في الأسواق ومجامع الناس، وأقلّهم يمارسونها على قارعة الطريق، وبين جنبات التاريخ قصص مضحكة وممتعة عن أساليب «الشحاذة القديمة» و شيء من تحايلات الشحّاذين وإبداعاتهم في تطوير الشحاذة!. لكن ثقافة الشحاذة القديمة كانت محدودة النطاق قليلة النائل مقارنة ب«شحاذة العولمة»، فتغير الزمان وتطور الإنسان وثورة الإتصالات وتحوّل العالم إلى قرية صغيرة منحا هذه الثقافة والمهنة بعداً أمميا، ومجال تحرّك عالمي لا تحده حدود ولا يحجبه حجاب، فمن يقارن الشحاذة في مسجد بالشحاذة في التلفاز!، وما الذي يقرّب التسوّل في الأسواق بالتسوّل في الفضائيات وعبر الأقمار الإصطناعية!. «شحاذة العولمة» مصطلح أحاول أن أجمع تحته ظاهرة جديدة في العالم العربي، بدأت منذ سنوات وتحديدا مع بدء القنوات العربية بالتناسل في فضائنا، والولادة في أجهزة تلفازنا، وتفشّت حتى قاربت أن تكون وباء لا تكاد تسلم منه قناة في السنوات القليلة الماضية. وحتى لا يحسب أحد أن وصف شحاذة العولمة بالظاهرة يعتبر مبالغة، فإنني مضطر لسوق عدد من النماذج التي يوجد لكل نموذج منها عدد من الأمثلة تكفي لإثبات الانتشار والتأثير اللذين هما عنصران أساسيان لأي ظاهرة. النموذج الأول نموذج «تلفزيون الواقع» والذي يعتبر حديث النشأة في الفضاء العربي، واستقطب الكثير من المشاهدين والمتابعين والمحسنين - أو المصوّتين - كما هو التعبير العولمي المحدث والجديد. هذا النوع من البرامج لا يستجدي «علية القوم» كما يفعل الشعراء القدامى، لكنه يقتات على «السواد الأعظم» من الناس، ويستجدي عامة الناس وجمهوره العريض من الطبقة المتوسطة وما دونها، لأن النخبة الثرية قليلة ونادرة في كل مجتمع وهذا منطق الأشياء، أما لماذا حظيت تجارب «تلفزيون الواقع» بمتابعة كبيرة فذلك موضوع آخر، أتمنى أن يتسنى لي الكتابة فيه لاحقا. النموذج الثاني نموذج «المسابقات» الذي يعتمد على مسابقات تكون في العادة عبارة عن أسئلة سهلة أو صور أو أغان أو غيرها من أصناف المسابقات، ويتميز هذا النموذج بتقديم جائزة للفائز الفرد وهي جائزة تكون «دائما» قطرة في بحر ما تأخذه الجهة التي تقدم المسابقة من المحسنين - أو المتصلين - حسب التعبير العولمي الآخر. النموذج الثالث نموذج السبعمئة (700)، والذي تُقدّم تحته جميع أنواع الخدمات التي لا تبدأ بتفسير الأحلام ولا تنتهي ببيع الأوهام عبر الضغط على أزرار الهاتف. بالتأكيد أنني لم أذكر كل النماذج المتاحة، لأمنح قارئ هذه الحروف حقه في اكتشاف المزيد، والأكثر تأكيدا أن هذه الظاهرة العولمية واصلت تبعا للشعراء القدامى العبث بالمعايير الأخلاقية، لتتحول الشحاذة من فعل بدائي مستهجن تدفع إليه الحاجة ويتعفف عنه الشرفاء إلى ظاهرة مقبولة وتجارة رائجة، وشحاذة العولمة تقدم لنفسها من التبريرات ما لم يقل مثله زيد بن هارون أشهر البخلاء في تبرير البخل واسألوا الجاحظ يعطيكم الخبر اليقين.