محاطة بالجنون في صوره الأبهى، قفزت هذه الأغنية عالياً في فضاء الموسيقى الغربية، عندما تم تسريبها لأول مرة في عام 2005م، إذ قامت إذاعة البي بي سي 1 البريطانية ببثها بشكل مكثف، حتى صدورها كأول أغنية منفردة لفرقة النيو سول الجديدة "جنارلز باركلي" في عام 2006م. في وقت مبكر من منتصف الألفية تقابل الثنائي، "دينجر ماوس" قادماً من خلفيته كمنتج وشريك موسيقي ومفتاح تأثير في أعمال قوية لفنانين بارزين مثل "غوريلاز" و"زي جي"، بينما كانت تجربة "سي لو جرين" ثرية في التسعينات مع فرقته "قوودي موب" التي أثرت عميقاً في موجة "الجنوب القذر" والتي برزت في ولاية جورجيا وتحديداً في موسيقى الهيب هوب. وهكذا في عام 2004م تقابل الثنائي في جولة غنائية كان "سي لو" يقدم فيها إحدى أغانيه، وكان الدي جي في تلك الجولة "دينجر ماوس"، هكذا توثقت عرى الصلة بين المبدعين وقررا تدشين مشروع موسيقي أسمياه "جنارلز باركلي" تسمية وجدت خلال جلسة كانت مليئة بالمحاكاة الساخرة مع مجموعة من الأصدقاء حول أسماء لمشهورين في عالم الموسيقى والرياضة والسياسة. هذه الجلسات الساخرة لم تتوقف وكان أحد أبرز العوامل المؤثرة في ظهور هذه الأغنية التي نستعرضها في هذه الزاوية اليوم. في إحدى تلك الجلسات كان "دينجر ماوس" يتحدث بسخط عن طبيعة الناس، وكيف أنهم أصبحوا لا يعترفون بإبداع أي فنان ما لم يظهر شيئاً من الجنون وغرابة الأطوار في تصرفاته، "سي لو" أخذ المناقشة إلى مدى أوسع وقرر كتابتها في قصيدة غنائية رفيعة، وبما أن اللحن قد تم تقريره سابقاً فلم يأخذ تسجيل الأغنية سوى جلسة تسجيل واحدة. لحن الأغنية الذي أصبح حديث الشارع الموسيقي في عام 2006م، يعود بأصوله إلى الستينات، وبخاصة إلى صنف سينما الإسباجيتي ويسترن "أفلام الغرب الإيطالية"، والتي اشتهرت بأعمال موسيقين مثل إينيو موريكوني ولويس باكالوف وستلفيو تشيبرياني. كانت البداية من فيلم "جهز الكفن يا جانغقو – Preparati la bara!" لفيرناندو بالدي 1968م، الفيلم الثاني بعد فيلم "جانغقو" الشهير لمخرج الإسباجيتي العنيف سيرجيو كوربوتشي، والذي اقتبس عنه المخرج الأمريكي كونتين تارانتينو فيلمه الأخير "جانغقو طليقاً - Django Unchained" 2013م. إحدى أبرز مقاطع الموسيقى التصويرية من فيلم بالدي كانت مقطوعة "آخر الرجال الصامدين – Last Man Standing" والتي كتبها ولحنها الأخوان ريفيربي رواد موسيقى الروك الإيطالية وموسيقى أفلام الإسباجيتي. جنارلز باركلي قاما بالاشتغال على عينة من الإيقاع الرئيسي لمقطوعة "ريفيربي" لخلق تيمبو الأغنية، ليس هذا فحسب، بل عمدا إلى تطوير بنية اللحن الرئيسي وبنية كورد الموسيقى التصويرية من خلال تطعيمها بالكورال والتداخلات والصدى والتردد، ما جعل الثنائي يحصلون على صيغة قانونية لكلا العملين كمطورين موسيقيين. من المثير للدهشة أن هذا العمل الذي بدأ كاقتباس، أصبح نموذجاً للعديد من عمليات المشاركة الفنية، وعمليات إعادة توزيع وتسجيل كثيرة، وكتابة أغنية جديدة على نسخة مطورة من الموسيقى المطورة أصلاً عن موسيقى ستينية، وهكذا صدرت عشرات النسخ كان أبرزها برأيي الأغنية التي كانت بتوقيع ابن هارلم مغني الهيب هوب البارز "جو بودن". صدر للأغنية نسختان مصورتان، الأولى والتي أعتقد أنها الأجمل والأذكى، كانت عبارة عن بقع حبر تتجسد على الشاشة بالتزامن مع إيقاع الأغنية مجسدة فكرتها من خلال اختبارات الطبيب السويسري هرمان رورشاخ والتي شاع استخدامها بعد وفاته بعشر سنين ابتداء من ثلاثينات القرن الماضي. هذه الاختبارات القائمة على مبدأ الإسقاط الفريدوي المعتمد على التحليل النفسي، تمتلئ في الفيديو المصور للأغنية بهمهمات "سي لو" وقرون الشيطان على رأسه في أحد المقاطع التي يقهقه فيها، صوره وصور "دينجر ماوس" تظهر طوال الكليب مع العديد من الطيور والحشرات والعناكب والوطاويط ومئوية الأقدام، كلها في نظام التطابق التي اشتهرت بها اختبارات رورشاخ. في آخر عام 2006م، صنفت الأغنية كأفضل عمل موسيقي لذلك العام، ثم لاحقاً في عام 2010 كأفضل أغنية للقرن الأول من الألفية الثالثة، وفي التحديث الأخير لقائمة رولينغ ستون الشهيرة، تم وضعها في الترتيب 100، لأفضل 500 أغنية في التاريخ. كما أن الألبوم الذي ظهرت فيها بعد صدورها منفردة، ألبوم الفرقة الأول "St. Elsewhere" صنف عالياً في الكثير من القوائم، أما تنزيلها منفردة عبر شبكة الانترنت فقد ظل الأول لمدة 9 أسابيع في المملكة المتحدة وكثير من دول أوروبا، واستمرت في تحقيق أرباحٍ عالية حتى قررت الفرقة والشركة المنتجة سحبها من التحميل المباشر، حتى لا يملها الناس وبيعت كأقراص رقمية، لكنها اليوم وبعد مرور كل هذا الوقت لا تزال تجني أرباحاً طائلة، ولا يبدو أن الناس ملوا سماعها، ربما لكم الإبداع الكبير الذي اشترك فيه العديد من الفنانين عبر عقود تجاوزت نصف القرن!.