تقف الدول ويقف الأفراد في المنطقة الرمادية حين يغيب القرار المستقل والرأي الحر، أو تغيب المعلومات والحقائق التي تساعد في تحديد المواقف والآراء. الوقوف في تلك المنطقة قد يكون مقبولا في الحوارات الفكرية، والمواقف السياسية، والخطط الاقتصادية، ولكنه غير مقبول على الاطلاق في قضايا الارهاب والعمليات الارهابية مهما كان مصدرها وفكرها وأهدافها. وإذا كانت المنظمات المتطرفة لا تؤمن الا بالإرهاب والعنف والتصفية لتحقيق أهدافها، وتعلن ذلك وتمارسه عمليا، فكيف يتخذ البعض المواقف الرمادية أو الصمت تجاه ما تقوم به هذه المنظمات؟ حين ينتشر الخطف والقتل والابتزاز والتفجير ويصبح الوطن - أي وطن - يعيش والسلاح مصوب الى رأسه فإن أبناء الوطن لن يقبلوا المواقف الصامتة أو الرمادية، فكيف تكون الحال إذا وجد من يدعم الارهاب بطرق مباشرة وغير مباشرة ؟ هنا لن يفيد الصمت ولا التنديد وإنما القرارات العملية التي تنفذ القانون لحماية أرواح الناس وتوفير الأمن للوطن. ويتم تعزيز ذلك بالحلول الفكرية التي تكشف عن زيف الفكر المتطرف وخطره على الجميع. أصحاب المواقف الرمادية العرب كانوا يبررون مواقفهم بما يحدث لفلسطين، مع أن سلاح المنظمات التي ترفع راية مقاومة اسرائيل لم يتجه الى اسرائيل بل الى العرب أنفسهم والى الأبرياء في كل مكان. وحين يقتل الأبرياء من أجل فلسطين فهذا اعلان عجز عن المقاومة الحقيقية، كما أنه يتيح لإسرائيل والمنحازين معها الى استخدامها لتغطية جرائمها وشن حرب اعلامية تشوه قضية فلسطين ثم يتبع ذلك مزيد من الاستيطان، ورفض مشاريع السلام. قضية فلسطين تعرضت للتشويه في مراحل معينة لكنها الآن بدأت تعود الى الساحة الدولية من باب السلام وكسبت احترام واعتراف كثير من الدول لأنها سارت في طريق المفاوضات نحو حل الدولتين لكن سلوك إسرائيل الارهابي وتوسعها الاستيطاني وايجاد العراقيل في طريق السلام دفعت بدول كثيرة الى الاعتراف بالدولة الفلسطينية. فالرسالة هنا أن المواقف الرمادية تجاه الارهاب الاسرائيلي غير مقبولة ولا تخدم عملية السلام. كما أن المواقف الرمادية أيضا غير مقبولة تجاه عمليات إرهابية تنفذ في مواقع كثيرة من خريطة العالم لأسباب سياسية أو دينية وحين وصلت هذه العمليات الى الأبرياء أدرك العالم أن المواقف الرمادية من الارهاب هي مواقف غير انسانية وسبب من أسباب انتشار العداء وتشويه الأديان والمجتمعات. فكل أنواع الارهاب ومصادره ودوافعه مرفوضة، فكيف إذا استهدف الأطفال. يقول والد أحد الأطفال الذين تعرضوا لهجمة ارهابية جبانة مجنونة في باكستان : (كان لدي حلم، غادر ابني صباح اليوم الى المدرسة بزيه الرسمي، كان حلمي، لكنهم قتلوا حلمي) أما أحد المعلقين فقال إن الذين هاجموا الأطفال لم يكونوا يريدون من العملية أن تكون عملية رهائن أو مفاوضات، بل كانوا يستهدفون القتل والانتقام، ثم إن المفاوضات مع هؤلاء القوم اسلوب غير مجد حيث لا أحد يعرف ما يريدون بالضبط!. نعم كانت عملية ارهابية جبانة تلك التي نفذتها طالبان الباكستانية، وهل يمكن تسمية هذه العملية بأي اسم غير الارهاب وكيف لإنسان عاقل أن يهاجم مدرسة أطفال أبرياء ليس لهم علاقة بالسياسة والحروب؟ تلك عملية تجاوزت حدود العقل والمنطق، وهل للإرهاب عقل أو منطق؟ وهل يجوز اتخاذ مواقف رمادية من هذه العملية وما شابهها؟ قبلها بيوم واحد دخل إرهابي الى أحد المقاهي في سيدنيباستراليا واحتجز من فيه كرهائن، وكان هناك تفاوض ثم اضطر البوليس الى التدخل بعد أن بدأ الارهابي بإطلاق النار. نجح البوليس في تحرير الرهائن لكن كان هناك ثلاثة قتلى أحدهم الارهابي. فهل يجوز اتخاذ مواقف رمادية من هذه العملية وما شابهها؟ وهكذا يقع الارهاب في كل مكان وأينما وقع يتسرع الاعلام بالبحث عن رابط ديني وبعضها يتسرع أكثر ويربطها بالإسلام دون وجود دليل على ذلك. هذا الخطاب الاعلامي ناتج عن تراكمات بدأها مع الأسف بعض المسلمين بمشاركة من فئة تريد تشويه الاسلام أو تفعل ذلك لخدمة أهداف سياسية. إن المواقف الرمادية لبعض من ينتمون الى الاسلام تجاه قضية الارهاب ساهمت في تغذية ذلك الخطاب الاعلامي الذي قد يدرك الآن أن الارهاب مشكلة عالمية ليس له دين ولا منطق ولا حدود، هو مرض يهدد الجميع ومقاومته تكون بالتكاتف الدولي والحفاظ على التضامن الاجتماعي، واحترام الأديان والتنوع الثقافي، ومحاربة العنصرية كما فعلت استراليا رسميا وشعبيا بعد حادثة المقهى. إن الصمت أمام أي نوع من أنواع الارهاب، إرهاب الدول أو المنظمات أو الأفراد مهما كانت مبررات هذا الارهاب، هذا الصمت يعبر عن موقف رمادي وهو موقف ضعيف وترجمة لفكر متردد أو أجندة خفية. فهذه قضية مرتبطة بالأمن والأمن في مصلحة الجميع فمن هو الذي يختار الموقف الرمادي في قضية الأمن؟ هذا يفسر لنا كيف أن بعض الدول الأوروبية بدأت تكسر صمتها وتتصرف باستقلالية وتعترف بفلسطين دولة مستقلة احتجاجاً على صلف اسرائيل وتهربها من حل الدولتين. هذا الموقف الأوروبي قد لا يؤثر الآن بشكل جوهري ولكنه بالتأكيد خطوة سوف تتبعها خطوات وسيكون له تأثيره على المدى البعيد. أما الموقف من المنظمات الارهابية المنتشرة في أنحاء العالم، فيجب أن يكون موقفا واحدا، وأن تكافح كما تكافح الأمراض القاتلة لأنها ضد الحياة.