سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
مشاهد طبيعية رائعة ... مراكز حضارية قديمة ... إمكانات تنموية عديدة النتائج الأولية لبحث الجغرافيا التاريخية لمنطقتي شرث وقرن الشطب شرقي محافظة العلا (2/2)
تعود جغرافية التاريخ الطبيعي لمنطقتي شرث وقرن الشطب شرقي محافظة العلا إلى عصور موغلة في القدم تزيد على 600 مليون سنة، جرت خلالها عمليات باطنية كبرى تركت آثارها في تغييرات بيئية واسعة وفي جغرافيا العصر التاريخي، جاءت آثار الإنسان لتروي كيفية تكيفه مع عناصر البيئة في مسيرته الطويلة لبناء تطوره الحضاري. وفي هذه الحلقة الثانية والأخيرة من رصد النتائج الأولية للدراسة الميدانية الجغرافية/الآثارية لمنطقتي شرث وقرن الشطب - التي قام بها كل من قسم الجغرافيا بجامعة الملك سعود (د. بدر الفقير، د. محمد بوروبة) ووكالة الآثار والمتاحف (أ. مطلق المطلق) وأفراد طاقم المسح والرسم والتصوير والحفر (لوحة 1) - يلقي د. بدر الفقير مزيداً من الأضواء مدعومة بالخرائط واللوحات الفوتوغرافية - على تطور البيئة الجغرافية وعلاقتها بتطور حضارة الإنسان في المنطقة المدروسة: أولاً: التغييرات البيئية: 1- التغييرات التضاريسية: شهدت المنطقة خلال الأزمنة الجيولوجية الثلاث الأولى حركات رفع باطنية صحبها تكوين الجبال وتعرضت مناطق الضعف بطبقات الحجر الرملي إلى انكسارات وصدوع عميقة واكبها اندفاع المصهورات البركانية إلى السطح، وفي الزمن الرابع الجيولوجي جاء فعل المياه السطحية الجارية إبان الفترة المطيرة، ثم جاء دور الرياح مع سيادة فترة الجفاف الحالية، وقد ترتب على كل ذلك تشكل مظاهر السطح التي تتكون من مجموعتين، رئيستين هما: - تضاريس تكوينات الحجر الرملي مثل الشواهد الصخرية الكبيرة التي ترتفع إلى أكثر من 1000 متر فوق مستوى سطح البحر والموائد الصحراوية والمنحوتات الصخرية بأحجام وأشكال غاية في الغرابة (لوحة 2) وسط الغطاءات الرملية المنقولة، وقد دفعت تلك المنحوتات الإنسان القديم لمحاكاتها في بناء مساكنه ومدافنه فأبدع في فنون المعمار الحجري. - تكون شبكات الأودية وروافدها فعلى امتداد خطوط الانكسارات والصدوع شقت المياه بقوتها الهائلة في الحفر والنقل والإرساب مجاري طويلة عميقة وأحواض تصريف وضفافاً واسعة كما في أودية: نخلة، الكظر، قو، الجزل، إلخ.. (شكل 1). 2- التغييرات المناخية والنباتية والحيوانية: مرت شبه الجزيرة العربية في ماضيها المناخي بعدة دورات متعاقبة من فترات المطر وفترات الجفاف، والأدلة على ذلك كثيرة منها تلك النظم النهرية العظيمة الزاخرة، بالمياه العذبة، والتي بقيت آثارها في الوديان الجافة، وتلك الآبار الأثرية المحفورة في بطون الوديان ووجود الينابيع في أسفل جوانب الوديان والتي ما تزال تزود البدو بجزء من حاجتهم من المياه. وارتبط بدورات الرطوبة والجفاف تغير كبير في مظاهر الحياتين النباتية والحيوانية، وذلك على ضوء ما وجد في المنطقة من بقايا أشجار غابات متحجرة كانت تنمو في دورة المطر وتجف وتطمر في فترة الجفاف إلى أن تتكلس، وبقايا عظام حيوانات برية وقواقع بحرية، ومن الرسوم المحفورة على الصخور لحيوانات عاشبة كفصائل الغزلان والزراف والأبقار والماعز والخيل والجمال والحيوانات المفترسة كالنمور والأسود والضباع والطيور العاشبة كالنعام والجارحة كالصقور والنسور (لوحة 3) مما يدلل على المشهد النباتي والحيواني السائد آنذاك والمتكون من تلال غابية وسهوب معشوشبة تتخللها الأشجار دائمة الخضرة والأنهار والبحيرات، تسرع فيها قطعان الحيوانات وكانت تشبه في ذلك بيئة مناطق السافانا في شمال السودان والتي تعتبر في الوقت الحاضر أكبر حديقة حيوان طبيعية في العالم. وعلى الأرجح فإن الجفاف حل تدريجياً في شبه الجزيرة العربية منذ الألف الثالثة ق.م. حتى وصل إلى ما يشبه حالته الراهنة في حوالي 1800 ق.م. ثانياً: حضارة منطقة شرث/قرن الشطب تهيأت لمنطقة شرث/قرن الشطب كل عوامل الاستقرار البشري كتوفر المياه والترب الخصبة والأجواء المشمسة مما جعلها تشارك في الثورة المعرفية التاريخية، حيث وصلت التحولات الاقتصادية والاجتماعية إلى درجة كبيرة من التطور تمثلت في انتقال الإنسان من مرحلة الجمع والالتقاط والصيد إلى الزراعة فتحولت قرى الصيادين إلى قرى مزارعين وتحول السكان من متجولين إلى مستقرين وظهرت المنازل وتشكلت نويات التنظيم الاجتماعي والاقتصادي والمعتقدات الدينية. وعلى الرغم من عدم وجود آثار معمارية شاخصة على السطح والتي ربما كانت موجودة وتلاشت بفعل العوامل الطبيعية وتدمير الإنسان، إلا أن جوف الأرض ما يزال يحتفظ بأسرار حضارات الشعوب الغابرة التي عاشت في المنطقة - مما يفتح جبهة آثارية رابعة تضاف للرصيد الضخم لمحافظة العلا، حيث سلسلة الآثار العالمية في الحجر ودادان والمابيات. ومن أهم شواهد ذلك ما يلي: - سلسلة من المواقع الأثرية المتضمنة مدافن فردية وجماعية (شكل 1) اخذت تصاميم بالحضارة المحلية للمنطقة ومنها النمط السكني/الجنائزي المختلط المحتوي على المقابر والممرات والغرف المختلفة الأحجام والتي تدل على القدسية الكبيرة التي منحها الإنسان لموتاه مما يبلور أساس المعتقدات الدينية، كما أن طريقة بناء الأساسات الحجرية وطريقة شبك الأحجار بعضها ببعش باستخدام الطين إضافة لاستقامتها وزواياها القائمة والمائلة والصخور المستخدمة المشذبة بعناية كبيرة (لوحة 4) ينم عن تقديم في التخطيط ووجود كوادر معمارية في فنون النحت والبناء. بالإضافة لمدافن أخرى أخذت بنمط مغاير وهو الدوائر الحجرية المتتالية المنحدرة من أعلى التلال إلى أسفلها، والدوائر الحجرية الملحق بها المذيلات الحجرية وقد حسم الفريق العلمي ماهية تلك الدوائر حيث تبين أنها قبور بعد إجراء مجس لها. - سلسلة الآبار في وادي الصوير والتي تعد عملاً إعجازياً في هندسة الري، ولعل السؤال هو كيف استطاع الإنسان وبأية وسيلة مساعدة، أن يطوي تلك الآبار العميقة ذات الفوهة الضيقة التي لا يتعدى قطرها المتر الواحد، بصخور ضخمة منحوتة يصل وزن الواحدة منها نحو 80 كجم وأن تحافظ على تماسكها وقوة بنائها عبر كل تلك القرون الخالية. - الفنون الصخرية والتي تجسد مظاهر حية لنشاطات حضارية كبيرة، وتتضمن تلك اللوحات الفنية الحجرية نصوصاً تذكارية باللغتين الثمودية والنبطية، ورموزاً تجريدية وتصويرية تمثل نشاطات اجتماعية كالحفلات الراقصة ومشاهد الصيد وألعاب الفروسية والرياضات الجماعية. ثالثاً: الطبيعة والآثار في خدمة التنمية: يمكن للموهبتين الطبيعية والتاريخية لمنطقة شرث/قرن الشطب، أن تخدم قضايا التنمية في محافظة العلا، فالمشاهد الطبيعية المبهرة في الخوانق النهرية عند المجاري العليا لروافد وادي نخلة، والعدد الكبير من التشكيلات الصخرية والتي أبدعت في نحتها الرياح، والمواقع الأثرية التي تعود لحضارات قديمة، كل ذلك يمثل إمكانيات وفرصاً كامنة قادرة على اثراء العديد من الأنماط السياحية الحديثة كالسياحة الجيولوجية وسياحة الاهتمامات الخاصة وسياحة التقاط الصور والسياحة التاريخية، كما يمكن لمخزون المياه الجوفية والترب الطينية الرملية السميكة أن تؤسس لنشاطات زراعية مزدهرة. في ختام هذا التلخيص المبدئي للدراسة العلمية الميدانية لجغرافية وآثار منطقة شرث/ قرن الشطب، أود أن أتقدم بالشكر والتقدير لسعادة أ. د. عبدالرحمن بن عبدالعزيز العبدان مدير مركز البحوث وأعضاء مجلس المركز بكلية الآداب بجامعة الملك سعود على دعمهم لفكرة البحث الميداني المشترك والتي آمل أن تتكرر في بحوث تطبيقية مماثلة لمعالجة تطور الظاهرات الجغرافية الطبيعية والبشرية وجلاء المنجزات الحضارية التاريخية وتوظيفهما في تدعيم المسيرة التنموية الوطنية المباركة، وأني على يقين أن كنوز آثار المملكة لم تكشف بعد، كما أن جغرافيتها لم تكتب بعد.