في غضون الأيام القليلة الفائتة، ومنذ صدور الأوامر الملكية الكريمة بالتعيينات الوزارية الجديدة، انبرى عدد من الكتّاب للكتابة تحت عنوان (ماذا نريد من الوزراء الجدد؟) أو قريباً من هذا العنوان ومضمونه، والصورة الذهنية الأولية التي قد توحي بها هذه العناوين وأشباهها أن هؤلاء الوزراء جاؤوا من كواكب بعيدة، ولا يعرفون شيئاً عما نريده منهم كوطن ومواطنين، لذلك هم بأمس الحاجة إلى من يدنو من آذانهم ليوشوش لهم ما نريد، أو يبادر في رسم أطر العمل التي يلزم أن يأخذوا بها. حتى إن بعضهم تقمص فيما كتب شخصية الوزير، وراح يتصور كيف يهز جذع هذه الوزارة أو تلك لتساقط على من تحتها رطباً جنياً، ليجترح الحلول، ويبني أهرام التطلعات بطوب أحلامه، وهؤلاء تعاملوا مع الوزراء كموظفين فقط يجب أن يستمعوا ويقرأوا ما كُتب لهم ويُنفذوا. خادم الحرمين الشريفين - حفظه الله - وقف في الجهة المقابلة تماماً من هذه الآراء في حفل تنصيب الوزراء الجدد، وأداء القسم، قال لهم ما معناه: أنا لم آت بكم لأعلمكم ماذا تفعلون، وإنما أتيتُ بكم لتعلموني ماذا ستفعلون، بمعنى أنه تعامل معهم كخبراء استوزرهم لكفاءاتهم وجداراتهم ليضعوا الخطط والبرامج اللازمة لتنفيذ برنامجه الإصلاحي، وتطوير أداء قطاعاتهم بعلمهم وعملهم فيما يخدم متطلبات التنمية واستحقاقاتها في هذه المرحلة التي تعج بالكثير من التحديات والمطالب، وهو بهذه الرؤية العميقة يُطلق أيديهم باتجاه ساحة العمل، ويُحررهم تماماً من مركزية القرار في حدود واجباتهم الوزارية، لأنه يبحث عن النتائج والمحصلات، ليدع لكل واحد منهم حرية اختيار الصيغة الملائمة على مستوى الأداء ليُنجز ما هو مطلوب منه، في حين أننا ككتاب نُريد أن نملي عليهم رؤيتنا لأسلوب وصيغة العمل حتى قبل أن يجلسوا على مقاعدهم، ويقلبوا أوراق وزاراتهم، وكأننا وحدنا من يملك العصا السحرية، وهذا هو الفرق بين الرؤيتين، بين من يُريد أن يُقيدهم برؤيته الشخصية كما لو أنهم قادمون من مجرات بعيدة لا يعرفون عن واقعنا أي شيء، وبين من يُريد أن يُطلق لهم العنان ليوظفوا خبراتهم ومهاراتهم وعلومهم لينجزوا مسؤولياتهم في مناخ أكثر أريحية. أنا لا ألغي قيمة تبادل وتداول الآراء في توسعة أفق الرؤية، لو أن كل ما كتب جاء من هذا الباب، لكني لستُ معها عندما تتحوّل إلى ما يُشبه الضغوط الاستباقية التي تقترب من صيغة الإملاء، ولعلنا نجد الأنموذج في تجربة الوزير الشاب الدكتور توفيق الربيعة، والذي ما كان هنالك من يلتفتُ إلى وزارته حتى بدتْ وكأنها وزارة منسية، باستثناء ما كان يُكتب من النقد عن حماية المستهلك، حيث جاء الرجل بأمانته وبرنامجه ليضعها في صميم اهتمام المواطن، بعد أن وجد فيها الناس خط الدفاع المكين عن حقوقهم أمام الجشع والاحتكار والغش وما إلى ذلك، والبرنامج الذي انتهجه الوزير الربيعة لم يُعدّه له الصحفيون الذين كانوا ساعة توزيره لا يجدون في وزارته ما يغري أقلامهم لا سلباً ولا إيجاباً، ولا يُوفر لهم أي نوع من القراء، وإنما صاغه وبناه هو بصدق وطنيته وإخلاصه وتفانيه في عمله، ليحظى بالنتيجة بكل هذا التبجيل الذي لا شك في أنه يستحقه. أريد أن أصل إلى القول: بأن هؤلاء المسؤولين لم يهبطوا علينا بمظلات من السماء، وأنا على يقين أنهم يعرفون مشاكلنا مثلما نعرفها، إنما الرهان فقط هو على عزيمتهم في إجراء التغيير، وصناعة الفارق في ظل وجود هذه القيادة التي تملك كل هذا القدر من الرؤية الموضوعية التي تُحرّرهم مما نريد أن نُقيّدهم به باشتراط الإنجاز فقط. هذا هو الرهان الحقيقي في تصوري وكل ما عداه فهو ليس أكثر من بيع للماء في (حارة السقّايين )، أو بالفصيح (جلب التمر إلى هجر).