حين سألوه عن ماذا يحتاج كي يعيش قال لهم: "لا خبز لا ماء.. فقط آلة كاتبة... فقط آلة كاتبة". كانت هذه إجابة كارلوس ليسكانو، أشهر كتّاب الرواية في الأوروغواي، وصاحب "الكاتب والآخر" الذي قال فيه بالكثير من العمق.. بالكثير من الصدق: "من ليلة إلى ليلة... أنتظر أن يحدث شيء.. أعرف أنه لن يحدث؛ ولكني إن لم أنتظر فلن يحدث بالتأكيد. وبحلول ليلة جديدة مماثلة لسابقتها لم يحدث فيها شيء أدرك أن ما حدث حقًا هو أنني على مر تلك الساعات التي مضت قد انتظرت، وهذا في حد ذاته شيءٌ مهم؛ إنه الجسر الذي يسمح بالعبور من ليلةٍ إلى أخرى، إذ ثمة ليالٍ أسوأ.. ليالٍ بلا انتظار!!". ليسكانو كان عسكرياً وعضواً في حركة التوبمارو وهي حركة تحرر ثورية يسارية اعتمدت النضال العسكري وحرب العصابات لتحقيق أهدافها خصوصًا بين العامين 1960م و 1970م، ويعود اسمها إلى "توباك أرمو"، الهندي الذي قاد واحدة من أهم الثورات ضد الأسبان عام 1780م. في ظل هذه الثورات اعتقل كارلوس وغاب طويلًا في السجون.. نام هناك واستيقظ لأيام لشهور لسنوات.. وكتب في زنزانته المتسخة لمدة خمسةَ عشر عاماً عن العجز والطغيان والشعور بالجوع الإنساني حيث يقول: "الوحدة والصمت وغيّاب العلاقات الإنسانية كلها عوامل تؤدي إلى الهذيان .. تؤدي إلى الوجع المتمدد في أذهاننا لذلك؛ كتبت كي أعيد ترتيبي من جديد.. كي أحافظ على كل شيء جميل بداخلي، وفي نفس الوقت كي أصرخ دون أن يستطيع السجان أن يقول شيئًا؛ لأنه غبي ولا يفهم كلمات الحقيقة، إنني كتبت في عزلة شديدة لا نور ولا ماء كان بجانبي!!". كارلوس ليسكانو صنع بيديه الكثير من الجمال ولعل الأشهر: قصر الطاغية، عربة المجانين، الكاتب والآخر. مقطع من روايته عربة المجانين: "هنا قد مرت أيام عديدة، وأنا في ثكنة للجيش، وسروالي وألبستي الداخلية وحذائي مبللة تماماً. أنا في الثالثة والعشرين من عمري. لا أعلم في أي يوم نحن ولا كم الساعة. أعرف أننا في ساعة متأخرة من الليل. أُعدت للتو من قاعة التعذيب الواقعة في الطابق السفلي، إلى اليسار من أسفل الدرج. هناك تسمع صرخات العديد من المعذبين الذين يتوالون على قاعة التعذيب طوال الليل. لم أفكر في أي شيء سوى جسدي، أو بالأحرى لم أفكر فيه وإنما تحسسته، كان قذراً، تغمره آثار الضربات، منهكاً، تفوح منه رائحة كريهة، ناعساً وجائعاً. في تلك اللحظة شعرت أنه ليس في الدنيا سوى جسدي وأنا. لم أجاهر نفسي بذلك وإنما عرفته: لا أحد سوانا. وستمضي سنوات عديدة، تقارب الثلاثين، قبل أن أستطيع البوح بما أحسست به!".