بريق المناصب القيادية وإغراءاتها لا تقاوم.. إغراءات تنقل صاحبها من قاع المجتمع إلى أعلاه، حيث الرفاهية ورونق الحياة وبهائها، ورغم الدخل الماديّ المرتفع الذي يجعل صاحب المنصب يعيش في رغد من العيش، إلاَّ أن هناك من قد لا يكتفي عند هذا الحد، فيظل حينها ينظر لأقرانه، ممَّن استغلوا مناصبهم القيادية وحققوا من خلالها ما لم يحلموا به طوال حياتهم فيما لو أنَّهم اقتصروا في معيشتهم على دخلهم الوظيفي فقط، وليست المناصب القيادية وحدها من تستطيع في بعض الأحيان تحقيق أحلام وطموحات أصحابها؛ إذ إنَّ هناك أيضاً وظائف أخرى ذات مستوى عاديّ في سلم الوظائف الحكومية، إلاَّ أنَّها لا تقل أهمية عن المناصب التي تتسنَّم السلم الوظيفي في أيّ دائرة حكومية. وظلت "سحر إبراهيم" –طالبة جامعية- تتردد على أكثر من ثلاث كليات جامعية، أملاً في الحصول على مقعد مستحق في إحداها، إلاَّ أنَّها لم تنجح في ذلك، رغم حصولها على نسبة تزيد على (90%) في القسم العلمي بالثانوية العامة، وكان ذلك خلال الفترة التي كان التسجيل فيها يتمّ حضورياً داخل أروقة الجامعات، حيث وقفت "سحر" حينها أخيراً في طابور المتقدمات تنتظر دورها، بينما كانت تتبادل الأحاديث مع إحدى الطالبات ممَّن أشفقت عليها لاعتقادها باستحالة قبولها نتيجة نسبتها المئوية المتدنية البالغة أقل من (75%). وبينما كانت "سحر" تحملق بعينيها في وجه زميلتها الجديدة، فإنَّها كانت في الوقت نفسه تسرح بخيالها فيما سيؤول إليه مصير الزميلة، التي لم تتوقف عن التبسّم طوال الوقت، رغم ما هي عليه من حال سيئ، إلاَّ أنَّ الزميلة تقدمت وتجاوزت باقي الطالبات متجهة نحو بوابة الدخول للتسجيل تصحبها إحدى المسؤولات وهي تمسك بها بعناية فائقة متجهة معها نحو القاعة، ليغلق الباب بعدها أمام الجموع، وبعد انتظار دام (10) دقائق، خرجت الزميلة الجديدة مخترقة جموع الطالبات باتجاه باب الخروج وهي تلوّح بيدها، وكأنَّها تقول: "لا تضيعي وقتك يا (سحر) بالوقوف في الطابور، ابحثي عمن ينتشلك من خلف الأبواب ليصحبك إلى الداخل". وتؤكد إحداهن على أنَّها وافقت على قبول إحدى المتقدمات للعمل بإدارتها، مُضيفةً أنَّها استخدمت كل إمكاناتها في سبيل ذلك، مقابل حصولها على وعد ومن قريب المتقدمة للوظيفة بتسهيل حصول ابنها على مقعد في إحدى الكليات الجامعية، مُشيرةً إلى أنَّه من الأجدى أن تتمَّ الفزعة للأقارب في كثير من الأحيان. ويُعدُّ الإعلام أحد أهم المجالات التي تمارس فيها صور التملق والإدعاء للوصول إلى ما يحقق أهداف يبحث عنها البعض، ليرسم بذلك صورة عن نفسه تمكنه مع الاستمرار في الكتابة للوصول لمبتغاه، وهو تقلد مناصب مهمة في الدولة أو لقضاء حاجة ملحة أو حل أزمات يمر بها. أزمة مالية وأشارت "موضي محمد" –ربة منزل- إلى أنَّها وزجها مرا بأزمة مالية بعد شراء منزلهم الجديد، مُضيفةً أنَّهما لم يتمكنا حينها من الوفاء ببقية متطلبات الأسرة، مُوضحةً أنَّ زوجها اضطر بعد ضغط كبير وقاسٍ منها لكتابة خطاب فيه كثير من التملق والاستجداء لمديره في العمل ليرفع عن كاهله الأعباء المالية التي لحقت به، مُبيّنةً أنَّه كان لذلك وقع كبير على المدير، ممَّا جعله يبادر بسداد الدين المستحق للبنك، إلى جانب تسديد كل المستحقات المالية، لافتةً إلى أنَّ زوجها أصبح من المقربين لدى المدير نتيجة ما يتمتع به من إمكانات فكرية وثقافية. وأضافت أنَّ الحياة تتطلب أن يكون الإنسان في بعض الأحيان أكثر جرأة، مُشيرةً إلى أنَّ ذلك لا يُعدُّ تملّقاً، بل هو نوع من أنواع مراعاة المصالح الشخصية التي أصبحت محور العلاقات الإنسانية المبنية في كثير من الأحيان على ما يطلق عليه بالعامية "شد لي واقطع لك". إجراءات روتينية وأوضحت "فاطمة الروقي" –موظفة- أنَّ أحد البنوك أوقف راتبها لانتهاء صلاحية بطاقتها الشخصية، وبالتالي كان لزاماً عليها أن تحصل على بطاقة جديدة، بيد أنَّ ذلك يتطلب وقتاً وإجراءات طويلة وفق إجراءات روتينية مُعقّدة، مُشيرةً إلى أنَّ ذلك تزامن مع اقتراب العيد، بينما كان على البنك أن يقفل أبوابه، فما كان منها إلاَّ أن لجأت لشقيقها الذي استطاع بمكالمة هاتفية حل المشكلة، مقابل إنجاز إحدى المهام لأحدهم في اليوم نفسه. داء اجتماعي وسلَّط "د.خالد الدوس" -باحث في علم الاجتماع- الضوء على أسباب هذا الداء الاجتماعي ووضع الحلول اللازمة للحد منه، مُشيراً إلى أنَّه لا يوجد مجتمع من المجتمعات البشرية خالٍ من العيوب والأمراض والأسقام الاجتماعية، ولكن هذه المثالب وإرهاصاتها تختلف معدلاتها وحجمها من مجتمع لآخر حسب درجة الوعي المجتمعي والعمق الحضاري والبعد الثقافي للمجتمعات بشكل عام، موضحاً أنَّ آفة التملّق الوظيفي، والنفاق الاجتماعي، والتسلّق على المنصب بحثاً عن تحقيق مصالح شخصية وأهداف ذاتية غير مشروعة، يُعدُّ من العمليات الاجتماعية الهدامة. وبيَّن أنَّ المظاهر السابقة شأنها في هذا السياق، هو شأن الغيبة والنميمة والكذب والحسد والمدح النفاقي والدعاية الرمادية والتلّون الحرباوي، لافتاً إلى أنَّها باتت -للأسف- ممارسات متوّغلة في سلوكيات وعادات كثير من الموظفين، حيث تضرب بأطنابها في خاصرة بيئة العمل، موضحاً ألا أحد ينكر وجود هذه العمليات الاجتماعية الخارجة عن قواعد الضبط الأخلاقي والديني والقيمي في أيّ مكان، سواءً في العمل الحكومي أو في القطاع الخاص أو حتى داخل نسيج العلاقات الاجتماعية والأسرية. لغة التملّق ولفت "د.الدوس" إلى أنَّ لهذه العمليات، خاصةً مرض التملّق والتسلّق الوظيفي مصطلحات عامة عند بعض علماء الاجتماع النفسي، ومن ذلك مسح الجوخ، أو ادهن السير يسير، أو الاستقماط، مُضيفاً أنَّ المتسلقون على المناصب يبحثون دائماً عن معاملة تفضيلية ومكانة وظيفية أفضل، والقرب أو التقرّب من المسؤول الأرفع في بيئة العمل، وذلك من خلال ممارسة أساليب مناهضه لمعايير الوظيفة الأخلاقية وقواعدها المهنية السامية وقيمها التربوية، مُشيراً إلى أنَّ هؤلاء يتحدثون بلغة التملّق اللا أخلاقي والنفاق الاجتماعي. وأضاف أنَّ أولئك لايدركون أنَّ سلوكهم المنحرف عن مسار الضبط القيمي والشرعي والتربوي يخالف الفطرة الإنسانية، ولا يليق بأخلاقيات المسلم الحقيقي المنبثقه من قواعد الشريعة الإسلامية ومنهجها القويم، موضحاً أنَّ الرسول الكريم –صلى الله عليه وسلم- يقول: "تجدون شرَّ الناس ذا الوجهين؛ الذي يأتي هؤلاء بوجه، ويأتي هؤلاء بوجه"، مؤكداً على أنَّ الموظف الحقيقي صاحب المبادئ السامية والقيم الواعية يفرض احترامه بجده ونشاطه ومصداقيته ونزاهته وأمانته، وبالتالي يجعل إنتاجيته في مجال عمله وسيلة نجاحه الوظيفي وتميزه عند رئيسه المباشر. إفلاس فكري وأكَّد "د.الدوس" على أنَّ المُتسلّق أو المُتملّق، الذي يتلوّن حسب المعطيات والمواقف والمصالح يتجرد بكل غباء وقبح وإفلاس فكري من منظومة القيم الأخلاقية ومكوناتها التربوية، ويحاول كسب ود المدير بأيّ وسيلة كانت، وإلحاق الضرر بالآخرين من خلال نقل معلومة مفبركة أو مصبوغة بلون من ألوان الكذب عن أحد زملائه في العمل، بحيث توجب غضب المدير أو تشويه صورته لغرض في نفس يعقوب، مُبيِّناً أنَّ التسلق على المناصب والتملّق الوظيفي يأخذ عدة أشكال أو مظاهر داخل محيط العمل. وأشار إلى أنَّ من صور النفاق الاجتماعي، تقديم الهدايا للمدير، وتقديم خدمات شخصية له ليست ذات علاقة بالوظيفة، إلى جانب مدح المسؤول بما لا يستحق أمام المرؤوسين، وكذلك الإساءة للآخرين، إضافةً إلى نقل صورة غير صادقه للمدير بهدف تشويه سمعتهم وتعزيز مكانته عنده، مُؤكداً على أنَّ مرض التسلّق والتملّق صفة من صفات الفاشلين، الذين لا يستطيعون أن يحققوا بقدراتهم الوظيفية ما يطمحون إليه، فيلجأون إلى أساليب النفاق والانتهازية والكذب والتلوّن بكل إسفاف واستخفاف. خلل وظيفي وأوضح "د.الدوس" أنَّ من أسباب التسلّق والتملّق والنفاق الاجتماعي في بيئة العمل تحديداً، ضعف الوازع الديني، مُضيفاً أنَّه قد ينشأ عن خلل وظيفي يعتري عملية التنشئة الاجتماعية والنفسية والتربوية والعقلية والوجدانية للمتملّق والمتسلّق، وربما يكون من أسبابه أيضاً المشكلات الأسرية، التي تؤثر على الحالة المزاجية للموظف واستقراره النفسي والعاطفي والاجتماعي، كما أنَّ الأصدقاء، خاصةً قرناء السوء لهم دور مؤثر في ظهور هذه الآفة المجتمعية البغيضة في بيئة العمل. وبيَّن أنَّ العوامل الثقافية والتعليمية والفكرية والاقتصادية تلعب دوراً "بنيوياً" حراكياً في اتساع دائرة هذه الأزمة السلوكية المظلمة ذات الأبعاد الاجتماعية والنفسية والتربوية وصورها المتفاوتة، موضحاً أنَّ أبرز الحلول الناجعة للحد من انتشار هذا السلوك المشين، هو الضبط الديني والاجتماعي والأخلاقي داخل نسيجنا الاجتماعي، مُشدّداً على ضرورة تفعيل دور المؤسسات الدينية في تنوير المجتمع بخطورة هذا المرض في كل مناحي الحياة، وذلك من خلال خُطب الجمعة. وأضاف أنَّ الدراسات المتخصصة أثبتت أنَّ تأثير خطبة الجمعة في إيصال المضمون والتوجيه والإرشاد أكثر من تأثير الإذاعة والتلفاز، مُشيراً إلى أنَّ للمؤسسات الإعلامية والتربوية والثقافية والمؤسسات الاجتماعية المعنية دور محوري في رفع سقف الوعي وتنمية اتجاهاته السامية داخل البناء المجتمعي، إلى جانب أهمية أداء الصروح الأكاديمية والتعليمية لمهامها في هذا الجانب، وذلك بعقد المؤتمرات وعمل البحوث والدراسات العلمية حول هذه الظاهرة المجتمعية البغيضة، وإيجاد الحلول الناجعة في قالبها العلمي الرصين. د.خالد الدوس