قال تعالى: {يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}، ومن رحمة الله جلّ وعلا بالمسلمين أنَّه جعل الأصل في الأشياء الإباحة ولا تحريم إلا بنص قطعي الثبوت، وقال رسولنا الكريم صلَّى الله عليه وسلَّم: «أنتم أعلم بأمور دنياكم» ولم ترد كلمة الحرام إلا قليلاً، تاركًا المجال لأمَّته ترتيب حياتها الدُّنْيَا بما لا يخالف الشرع القويم، وبخاصَّة بعد أن ارتبطت مصالح الأمم مع بعضها، وأصبح العالم كالقرية الواحدة، وارتبطت الإدارات والسفارات والشركات ومصالح شعوب العالم مع بعضها عن طريق التكنولوجيا والاتِّصالات مما جعل الفقهاء يستحضرون ضرورة تحقيق المصلحة في تقليص أيَّام الإجازات ودرء المفسدة في تباعدها وتفريقها، فلم تعد المجتمعات الإسلامية بمنأى عن المشاركة الفعَّالة لتعيش عزلة تفقدها من المصالح الشيء الكثير، فعلى أقل الأحوال تستحضر الضرورة التي تبيح المحظورات في كلِّ ما يمكن قبوله شرعًا، ومن عظمة الشرع أنّه يدور حيث تدور المصلحة المعتبرة شرعًا، والشريعة مبنية على تحقيق مصلحة العباد ودرء المفاسد عنهم في الدُّنْيَا والآخرة، ولذلك اكتسب بحث المصالح وفقه المقاصد وتفعيل الاجتهاد بضوابطه الشرعيَّة والقياس كدليل من أدلة الأصول الغالبة في العصور المتأخِّرة أهمية خاصة عطفًا على قواعد تُؤكِّد أن المصطفى صلَّى الله عليه وسلَّم لم يأمرنا بشيء إلا وفيه مصلحة حتَّى وإن لم تظهر لنا، ولم ينه عن شيء إلا وفيه مفسدة، ومن أقسام المصالح المرسلة مصلحة تعود إلى حفظ المال، ومن استقرأ تشريع الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين يجد أنهَّم أقروا أحكامًا كثيرة لتحقيق حفظ هذه المصلحة وغيرها مما مرتبط بالضرورات الخمس، وكانوا فقهاء غير معلبين ولا قاصري اجتهاد، وقد أقر المقام السامي في الأسبوع الماضي أن تكون الإجازة يومي الجمعة والسبت، وقد جاء الأمر الملكي مؤكِّدًا أن هذا القرار ضرورة ومصلحة، وليس ترفًا وتقليدًا: «بناءً على ما تقتضيه المصلحة العامَّة، وانطلاقًا مما تفرضه المكانة الاقتصاديَّة للمملكة والتزاماتها الدوليَّة والإقليميَّة وتوجهها نحو الاستثمار الأمثل لتلك المكانة لما فيه مصلحتها وبما يعود بالخير والرفاه على مواطنيها. ونظرًا لما ظهر لنا من الأَهمِّيّة البالغة لتحقيق تجانس أكبر في أيَّام العمل الأسبوعية بين الأجهزة والمصالح الحكوميَّة والهيئات والمؤسسات الوطنيَّة وبين نظيراتها على امستوى الدَّوْلي والإقليمي، لما يترتَّب على ذلك من مصالح ظاهرة وما يحقِّقه للمملكة من مكاسب مهمة وبخاصَّة في الجوانب الاقتصاديَّة. وحرصًا منّا على وضع حدٍّ للآثار السلبية والفرص الاقتصاديَّة المهدّرة المرتبطة باستمرار التَّباين القائم في بعض أيَّام العمل بين تلك الأجهزة والمصالح والمؤسسات والهيئات الوطنيَّة ونظيراتها الدوليَّة والإقليميَّة. وبعد الاطِّلاع على الأنظمة ذات العلاقة أمرنا بما آت، ولا شكَّ أنّ هذا القرار يحمل مضامين شرعيَّة لا تخفى على ذي لبٍّ من خلال ما يلي: 1- مخالفة الكُفَّار التي وردت في الشرع والتشبُّه بهم بحاجة إلى تعريف دقيق، ومعرفة لقواعد تطبيقها، وهناك كثير مما تشترك فيه الأمم إِذْ ورد عن ابن تيمية في اقتضاء الصِّراط المستقيم: «لو أن المسلم بدار حرب أو دار كفر، لم يكن مأمورًا بالمخالفة لهم في الهدي الظاهر لما عليه ذلك من الضرر، بل قد يُسْتَحَب للرجل أو يجب عليه أن يشاركهم أحيانًا في هديهم الظاهر إذا كان في ذلك مصلحة دينية». 2- هناك ضرورة لمثل هذا القرار كما جاء في ديباجته السابقة، إِذْ ثبت أن الأسواق الماليَّة في السعوديَّة تقتضي تنسيقًا مع الأسواق العالميَّة والبورصات العالميَّة وقد تكبَّدت الشركات الوطنيَّة والمستثمرون الأجانب خسائر هائلة بسبب الفارق بين أيّام العمل بين المحلي وغيره، وقد نصّ خبراء الاقتصاد أن السعوديين سيربحون مليارات من هذا التغيير وأنّهم سيقلِّصون الخسائر. فالتشبُّه المحرم يصبح مباحًا وربما واجبًا للضرورة، جاء في الفتاوى الهندية للشيخ نظام: «يكفر بوضع قلنسوة المجوس على رأسه على الصحيح إلا لضرورة دفع الحر والبرد»، وهذا النص يحتاج إلى بيان وتوضيح.. 3- السبت والأحد من أيّام الله، ولم تعد لهما تلك الطقوس الدينية، وقد قال العلماء: إن التشبُّه الممنوع في الوقت الذي يكون المتشبه به من شعار الكفار، وأما أن حصل التغيير فيخرج من النهي، ذكر الحافظ ابن حجر أثر أنس رَضِي اللهُ عَنْه أنَّه رأى قومًا عليهم الطيالسة فقال: «كأنهم يهود خيبر»، ثمَّ قال: «وإنما يصلح الاستدلال بقصة اليهود في الوقت الذي تكون الطيالسة من شعارهم، وقد ارتفع ذلك في هذه الأزمنة، فصار داخلاً في عموم المباح، وقد يصير من شعائر قوم فيصير تركه من الإخلال بالمروءة»، وقال ابن حجر في الفتح: «وقد كره بعض السلف لبس البرنس لأنّه كان من لباس الرهبان، وقد سُئل مالك عنه فقال: لا بأس به، قيل: فإنّه من لبوس النصارى، قال: كان يلبس ههنا»، بل إن التشبُّه قد يكون مستحبًا أو واجبًا إن كان في ذلك مصلحة دينية من دعوة الكُفَّار والاطِّلاع على باطن أمورهم لأخبار المسلمين بذلك أو دفع ضررهم عن المسلمين ونحو ذلك من المقاصد الحسنة كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في اقتضاء الصِّراط المستقيم. 4- السبت عند العرب معناه الراحة، قال ابن منظور في لسان العرب: «والسبت الراحة، وسبت يسبت سبتاك استراح وسكن، والسبات: نوم خفي كالغشية.. ومعنى ذلك أنّه موجود عند العرب قبل ما كان عند الأمم، ويقال فيه كما قال مالك عن البرنس كان راحة ههنا.. 5 - إن الإجازة في الجمعة والسبت حتَّى وأن اتفقت مع غيرنا فهي من التشبُّه بهم في غير المذموم، ولم يقصد بالقرار ذات التشبُّه بهم وإنما أقر لمصلحة مرسلة ودفع ضرر لحفظ مال المسلمين، وقد ذكر لأبي يوسف أن سفيان وثور كرها لبس النعال المحصوف بالمسامير لأنّه من لباس الرهبان، فقال: كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يلبس النعال التي لها شعر وإنها من لباس الرهبان» وذكر الشيخ نظام في الفتاوى الهندية أنّه أشار إلى أن صورة المشابهة فيما يتعلّق به صلاح العباد لا تضر. 6- إجازة الخميس والجمعة لم يرد بهما نصّ شرعي، بل إن شيخ الإسلام ابن تيمية تحدث عن الخميس محذِّرًا من تعظيمه: «ما كان في الأصل مأخوذاً عنهم، إما على الوجه الذي يفعلونه، واما مع نوع تغيير في الزَّمَان أو المكان أو الفعل ونحو ذلك، فهو غالب ما يبتلى به العامَّة في مثل ما يصنعونه في الخميس الحقير والميلاد ونحوهما، والخميس يقصدون به الخميس الكبير عندهم، ويزعمون أن في مثله نزلت المائدة على سيدنا عيسى عليه السَّلام، وقد سماه شيخ الإسلام بالخميس الحقير تصغيرًا له كما في اقتضاء الصِّراط المستقيم.. وعطفًا عليه فالخميس لا يختلف عن السبت في الحكم. وكان حقًا على من لا يرى جواز الجمع بين الجمعة والسبت في الإجازة أن يستحضر أن بعض العلماء من قال بكراهية ترك العمل يوم الجمعة كما تفعل اليهود والنصارى في السبت والأحد إن كان القصد المخالفة استدلالاً بقول مالك بن أنس -رحمه الله- وهي رواية ضعيفة لقوله بلغني: «وبلغني أن بعض أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كانوا يكرهون أن يترك العمل يوم الجمعة كما تركت اليهود والنصارى في السبت والأحد»، بل إن شيخ الإسلام ابن تيمية نقل عن الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله- قوله: «ويكره ترك العمل يوم الجمعة كفعل أهل الكتاب يوم السبت والأحد»، وقد قال الله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.. 7- القرار لم يلغ إجازة الجمعة، ويقر إجازة السبت فقط، بل للتفريق بيننا وبين غيرنا أقر الجمعة والسبت ولهذا صور مشابهة في الشرع الإسلامي، ومنها: صيام يوم عاشوراء، إِذْ ورد أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قدم إلى المدينة ورأى اليهود تصوم عاشوراء، فقال: ما هذا؟ قالوا: هذا يوم صالح نجى الله فيه موسى وبني إسرائيل من عدوهم، فقال: أنا أحق بموسى منكم، فصامه وأمر بصيامه». وقال: «لئن عشت إلى قابل لأصومن يومًا قبله أو بعده «إشارة إلى مخالفة اليهود في صيامهم، وروى الإمام أحمد والإسناد فيه ضعف عن ابن عباس رَضِي اللهُ عَنه قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «صوموا يوم عاشوراء وخالفوا اليهود فيه، صوموا قبله يومًا أو بعده يوما».. وفي إقرار الجمعة والسبت حصلت المخالفة وانتفت المشابهة، بل إن رسول الله صامه معهم في تلك السنة، وتوفي صلَّى الله عليه وسلَّم ولم يصم يومًا قبله أو بعده.. 8- مما يدل على أن المخالفة بإقرار يوم بعده أو قبله معتبرة في الشرع الإسلامي ما يحصل في إفراد صيام يوم الجمعة أو السبت، إِذْ ورد النهي عن أفراد يوم الجمعة والسبت بصوم غير مفروض، وهو نهي للكراهة عند الجمهور وليس للتحريم، وتنتفي الكراهة في أحوال بينها العلماء، ولذلك عدّ العلماء صيام اليومين معًا غير داخل في النهي كما أن صيام الفرض ليس داخلاً في النهي، وقد تحدث العلماء عن العلة، قال ابن حجر الهيتمي في الفتاوى الكبرى: «وقيل العلَّة أن لا يبالغ في تعظيمه كاليهود في السبت،.. وقال أيضًا: ويكره أيضًا إفراد يوم السبت لقوله: لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم... ومعنى النهي أن يختصه الرَّجل بالصيام لأن اليهود يعظمونه».. وقد صرح العلماء أن في أفراده تشبه بهم كما في كشف القناع في الفقه الحنبلي، فإذا كان هذا ممنوعًا في إفراده بالصيام عبادة، وجواز صيامه إن اقترن بيوم قبله أو بعده، فمن باب أولى أن الإجازة وهي من المصالح المرسلة يومي الجمعة والسبت جائزة وليست من باب التشبُّه الممنوع، بل حصل المخالفة في ذلك الاقتران.. 9- المخالفة لا تعني المنع، بل إنّها تعني إشراك فعل آخر بدليل أن الصحابة سألوا الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم في الحديث بإسناد حسن: «خرج رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم على مشيخة من أهل الأنصار.. فقلنا يا رسول الله أن أهل الكتاب يتسرولون ولا يأتزرون، فقال تسرولوا وائتزروا وخالفوا أهل الكتاب، قلنا يا رسول الله أن أهل الكتاب يتخففون ولا ينتعلون، فقال رسول الله: فتخففوا وانتعلوا وخالفوا أهل الكتاب»، وهذا في اللباس والزي والشبه فيه أوضح من الإجازة وإشراك الجمعة فيها دليل على انتفاء المشابهة والمضاهاة. 10- قال الإمام أحمد في المسند بإسناد حسن، وصحَّحه الحاكم وضعَّفه الألباني عن أم سلمة رَضِي اللهُ عَنْها قالت: « كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يصوم يوم السبت ويوم الأحد أكثر مما يصوم من الأيام، ويقول: إنَّها عيد المشركين، فأنا أحبَّ أن أخالفهم «وبهذا يتَّضح أن رسول الله الذي نهى عن إفراد صوم يوم السبت من باب التعظيم قد صامه مع الأحد مخالفة للمشركين، والجمع بين الجمعة والسبت في الإجازة أبعد شبهًا من الجمع بين السبت والأحد فهما عيدا اليهود والنصارى بينما الجمعة عيد المسلمين كما ورد في زاد المعاد.. هذا والله جلّ وعلا أعلم، ونسأله التوفيق والسداد، والله من وراء القصد. نقلا عن صحيفة الجزيرة د. عبدالله بن ثاني [email protected] عميد الموهبة والإبداع والتميز البحثي بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية