كثير من الناس يعتقدون أن العنف والتعدي في مكان العمل يدخل في دائرة الضرر البدني فقط، بينما يجهلون أن هناك نوعاً آخر من هذا التعدي وهو خطر ومؤذ يحويه ويتستر خلفه المكر والخداع والخبث، وهو ما يسمى بالنميمة التي تتلخص معانيها تحت الثرثرة الماكرة العدائية في القيل والقال. والنميمة تلك تعد من اللغات والتعريفات التي تحدث ضررا وألما شديدا وتشويشا للآخرين من حيث توجيه العداء والطعون فيهم من دون علمهم وحضورهم وقت الحديث. وللتوضيح من خلال رأي المختصين والمدربين الإداريين والمحللين للشخصيات والتصرفات النفسية، يتحدث المدرب الدكتور بيتر فاجدا “وسيط التدريب ومدرب ادارة ومؤسس سبيريت هيرت (SpiritHeart) “، ناقلا خبرته للعديد من الحالات التي عاشها وشهدها، أن كثيراً من مواقع العمل التي يعلم عنها، تعتبر النميمة أمرا طبيعيا وعاديا وكأنها عرفا سائدا في تلك المواقع، ومن خلال تعمقه في الموضوع؛ يقول المدرب بيتر أن هؤلاء الناس الذين يعملون في تلك المواقع حينما يُسألون عن النميمة، فإنهم يعبرون عن امتعاضهم واستنكارهم لها بل ضدها والتعامل بها، ومن خلال تنظيمه لحلقات وورش تدريبية وتحليلية وتوجيهية للحد من النميمة بين العاملين، وبعد التعهد من طرفهم باتخاذ طريق جديد من الأمانة لنزع هذه العادة من حياتهم، ومن خلال التجربة العملية بعد التدريب والتعهد بفتح المجال للإتصال والحديث مع الزملاء مباشرة وليس من الخلف، لاحظ أن كثيرا ممن تعهدوا أخذوا طريق النميمة مرة أخرى كوسيلة للاتصال والتبادل... لماذا؟ لأن النميمة أساسا تعتبر نوعا من الهجوم، تتصاعد وتيرته عبر خوف اللاوعي والوعي الشخصي أيضا، أي أن كثيرا ممن يزعمون عدم إتباعهم للنميمة في حياتهم، سرعان ما تنكسر مبادئهم فيما يتبنوه ويسلكون النميمة في حال الخوف والقلق، وينتابهم التساؤل بعده في التشكيك بمصيرهم الحياتي والإجتماعي لو لم يسلكوا النميمة ضمن تصرفاتهم وصداقاتهم وأحاديثهم، في الخوف من خسران مواقعهم وارتباطاتهم كما يعتقدون، مضافا إلى أن تعريف النميمة الأوسع لدى البعض قد يتعدى السلبيات إلى الإيجابيات أيضا، وحتى ما بينهما “وسطا” في الأحاديث عن الآخرين في غيابهم. إن الإقلاع عن عادة الحديث عن الآخرين يعد من ضمن التحديات التي تواجه الكثيرين، لماذا؟.. لأن كثير من الأشخاص لا يستطيعون أن يكونوا صادقين في حياتهم، لذلك عدد من هؤلاء تتحول شخصيتهم إلى شخصية دفاعية من خلال النميمة، ويتم استخدام النميمة كوسيلة حماية يختفي تحتها الضعف، وإخفاء المعلومات الحقيقية تحتها والتعبيرات الداخلية للشخص، أي أن النميمة تعد من الإستراتيجيات لدى بعض الأشخاص لطمس الحقيقة، ويعبر عنهم المدرب بالذين يجولون طويلا في حياتهم ويلبسون الأقنعة ويختفون خلفها كالمنافقين الذين تخيفهم وتهددهم الحقيقة والصدق. فحينما تحصل الرغبة الداخلية في طلب الصدق والأمانة والإبتعاد عن النميمة، فإنه يجب أن تظهر وتتجسد في الشخص روح الصدق العميقة والوعي، وتصبح الرغبة القلبية غير المؤذية خطاً واضحا في حياته وتعامله مع الآخرين. فبدون التعهدات الداخلية العميقة في داخل الإنسان، لا يمكن إيقاف النميمة بالأوامر، ومثال ذلك ببساطة؛ هو أن القوانين والأوامر الخارجية غالبا ما تحدث علوا وأنانية في النفس من خلال التصرفات التي تتعامل مع تلك الأوامر، أي أنها باستمرار تظل تطلق الأعذار باتجاه الإنغماس والغلو في النميمة. من المنظور الخارجي باتجاه النميمة، يبدو أن بعض الأشخاص يتخذون دورا في تبنيهم القوة والصلابة نحو المبدأ، وآخرين لا يرغبون أن يستشعروا أنهم قساة وعنيفون ومندفعون حينما يتعاملون ويواجهون من يسلكون النميمة في حياتهم، وآخرين لا يريدون أن ينعتوا بالمتدينين والروحانيين ومقدمي النصح والفضيلة. ونضيف أيضا، أن بعض الأشخاص يرغبون أن يستشعر الآخرون معهم بالراحة من خلال الأقحام في سلوك النميمة، لأنهم لا يريدون أن يستشعروا أنهم منعزلون حسب فهمهم. إن التعهدات بترك النميمة سيتلاشى مع الوقت نظرا للظروف المحيطة وقوة ورغبة النفس الحقيقية، وفي المقابل هناك من الأشخاص من يبدي تأييدا ظاهرا ضد النميمة، وهم لا يزالون يمارسونها بإرسال الطلقات العدائية بهدوء وسكون، وتلك التصرفات الخفية المعتمة يكون وقعها على الآخرين وقعا أشد ضررا وخبثا، لأنه مركز ومفبرك بهدوء. والنميمة باعتبارها أساسا ونتاجا وتصرفا من الخوف الذي يستدعي حماية النفس من خلالها، في مرحلة تفوق اية تعهدات للامتناع عنها، لأنها نوع من أنواع النفاق ولبس الأقنعة التي تطلق فيه نوايا الحماية المفبركة باتجاه التوجيه والتركيز نحو الآخرين والابتعاد عن مطلقيها وتناسيهم ولو بالتعظيم والتكبير للأمور وافتعال الأمور. ولدى البعض أيضا من الناس اعتقاد بأن النميمة لا تعد في بدايتها مبدأ للحماية الشخصية، لكنها تبدأ وتتشكل نتيجة لتعقد الأمور في حماية النفس حينما يوضعون في مواقف لا يستطيعون الإجابة عليها، فتبدأ بالتشكل والتبلور من خلال إيجاد منافذ للخروج من الأزمات باتجاه ترحيل المشاكل على ظهور الآخرين والتشكي واللوم عليهم، كونهم لا يملكون القدرة على الدخول في أعماق أنفسهم والبحث في استنطاق الحقائق والتبريرات السليمة. فالأمر في حقيقته؛ أن الإنسان لا يمكن أن يتحرر ويتخلص من سلوك النميمة إلا إذا اكتشف وبحث في داخله وأعماقه واستأصل الأنا واكتشف كيف يخرج الصورة الصادقة من الداخل إلى الخارج، وبلورة الاعتقاد بالأمانة في روحه، وتمكن من ممارسة التكتيم لنفسه، لخلخلتها من أجل إطفاء ضوضائها، كما أنه يستطيع أن يوقف سلوك النميمة حينما يأخذ الصدق واللاأذي وكمال الإحساس والشعور الحي في ضميره وقلبه مسلكا حقيقيا من رغبة داخلية لا تمس وتضر بالآخرين. فكما أشرنا سابقا بماهية النميمة من ناحية العنف والتعدي، وأن التصدي لها يكمن في البحث عن سبل ايقاف التفريق بين الشعور الخارجي والداخلي، فحينما يتحقق هذا الهدف، فستكون الحياة سعيدة مليئة بالمودة والمحبة والإخلاص متجسدة في حياة عملية مسؤولة لا يشوبها القيل والقال ولا كثرة مالا يهم من السؤال، وسترحل النميمة بعده من باب الخروج بلا عودة.