الأمر الملكي أثلج الصدور بقدر حجم الكارثة التي وقعت وروعت الناس، والتي لم يتصور الجميع أن تحدث في قرية من قرى المملكة ناهيك عن مدينة كبيرة.. الأمر الملكي يحمل في طياته منهج قائد، وشجاعة ملك صاحب قرار، اضطلع بكل مقدرة وكفاءة بما يجب عليه تجاه مهامه القيادية، تجلى ذلك في قوة الأمر الكريم ومنطوقه الحاسم ومفهومه الجلي الواضح في تحليل وتشخيص المشكلة وتحديد أوجه العلاج ومواطن الضعف والقصور.. تشير أصوات المواطنين إلى ان ما حصل بفاجعة جدة سببه فساد وإهمال مسئولين متغافلين والمواطنون الشرفاء رافعين أكف الضراعة داعين أن يحفظ المليك المفدى ذخرا لامته وأبناء شعبه ملكا للحق والعدل والسلام.. ناصر المظلومين والمنكوبين ، ذلك الهمام المؤكد على ثوابت الدولة والأسرة التي أسسها الملك عبدالعزيز رحمه الله. لقد تضمن القرار الحازم الحكيم مضامين وثوابت شرعية ،عن قائد شجاع حكيم وصاحب تجربة يخاف الله ولا يخشى في الحق لومة لائم ، وليس بمستغرب عليه ذلك حفظه الله صاحب الحسم والعزم والقرار السديد.. لقد اشتمل القرار الحكيم على معاني إيمانية ومضامين تربوية كثيرة تحقق الرقابة والمحاسبة الدقيقتين ، فانتصر حفظه الله للقضاء بالحق ،وللضمير الإنساني بالعدل ، مؤكداً إنصاف كل مظلوم ، مخزياً عين كل متخاذل ومتهاون بحق دولة الإسلام ومواطنيها الشرفاء. وأعاد القرار الحكيم النصاب إلى جادة الطريق القويم طريق الحق والعدالة والإنصاف ، في شجاعةٍ وقوة لا تعرف الإنحاء والتسويف والتلون، مرتقياً بالمواطنة الحقة إلى قِمة مصَاف المسئولية والأمانة امتداداً لنهج شريعة الإسلام.. ملك يخاف الله في مواطنيه ، لا يجد غضاضة من قول الحق وإبراز الحقيقة بمحاسبة كل من لا يتحمل أمانة المسوؤلية التي منحتها الدولة له ، قرار متسمٌ بأدق التفاصيل وأجلها قلَّ أن يتخذه قائدٌ آخر. ويمكن تلخليص المضامين الإيمانية للأمر الملكي في الآتي أولاً: المضمون الإنساني : لقد جسد القرار مدى التأثر العميق الذي استشعره خادم الحرمين ساهراً ، متابعاً تداعيات فاجعة سيول جدة.. التي توجت مشاعره الإنسانية النبيلة والله يعلم بمقدار مكابدته الألم والأسى والأسف من جراء ما حدث وما شاهده ، ومما وصلت به الحال من أمطارعادية أدت إلى نتائج كارثية كبيرة.. ومما يحزن أكثر ما كشفت عنه الحالة بوضوح أن هناك فساداً كارثياً نتناً مستشرياًٍ وسط القطاعات. فساد كريهٍ وموجعٍ ، فعبر حفظه الله مفصحاً فى تَسامِي بالألم الذي شعر به والمرارة في حلقه ، غير متوانٍ في أن يوضح لأبناء شعبه أن ما حدث لن يمر دون عقاب ، وأنه سيتخذ كل الإجراءات لمحاسبة كل مقصر ومتهاون فيما حدث ، منتصراً للوطن العزيز والمواطن، والأمر الملكي.. يعتبر درسا ، ورسالة مستقبلية لكل مسؤول أو متعهد بأن كل شيء متعلق بأموال الدولة أو حياة المواطن خط أحمر ، تحديه صعبٌ وسيكون الفاعل تحت المجهر وسيحاسب كائناً من كان.. فتقوى الله هي السبيل للنجاة. ولا عودة للمحسوبية أو تقديس الذوات على حساب الوطن والمواطن. ثانياً: المضمون الإجتماعي : كارثة السيول التي ضربت عروس البحر في خاصرتها أدت لاستشهاد “العشرات” من المواطنين ، ناهيك عن من هم في عداد المفقودين ، وخسائر فادحة في المال العام والخاص. فسارع خادم الحرمين ملبياً صنائع المعروف.. موجهاً بصرف مبلغ مليون ريال لذوي كل شهيد غرق ، والتعويض المجزي والفوري للمتضررين في ممتلكاتهم ، وليس هذا بالغريب على ملك الإنسانية فإن خير يديه الكريمتين كثير ، قد شملت مآثره الإنسانية شعوب العالم أجمع. أمر ملكي حكيم ناتج عن شفقته حفظه الله على شعبه والإحساس بمصابهم ، ويجسد حجم المسؤولية التي يستشعرها ولي الأمر في إحساس بالمسؤولية والتضامن المعطاء اللذين يمليهما الدين الإسلامي الحنيف، ويجسد التفاعل الإيجابي مع آلام المواطن والمقيم على ثرى المملكة الطاهر فخادم الحرمين الشريفين في موقع الحدث دائما، وفى تفاعل القيادة مع الشعب في كل أزمة يتعرض لها.. فأنظار المليك ظلت شاخصة نحو الكارثة لا تغمض عنها طرفةً ، فجاءت معالجاته حاسمة ومناسبة. ثالثاً: المضمون المحاسبي: الأمر الملكي أمر مفعمٌ اضطلع بكل مقدرة وكفاءة بما يجب اتخاذه تجاه المهام القيادية الجسام ، وتجلى واضحاً في شفافيته ، بمحاسبة كل مقصر أو متهاون بكل حزم ، فمحاسبة المقصرين ضرورة يمليها الدين الحنيف على أتباعه ،عن أبي ذر قال قلت يا رسول الله (( ألا تستعملني قال فضرب بيده على منكبي ثم قال يا أبا ذر إنك ضعيف وإنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها))”مسلم 2/1457” واللغة التي صاغ بها حفظه الله صلاحياته الرقابية ، تعتبر غير مسبوقة تماما، وتعتبر بمثابة دق الجرس لكل من تسول له نفسه العبث بالمسؤولية أو الأمانة وأموال المسلمين ، كما تعتبر نداءً بصوت عالٍ ، لدعم مسيرة الدولة نحو المشروع النهضوي الحضاري ، ومعالجة جميع السلبيات التي تهدم وتعيق الوصول إلى أعلى المراتب في سلم الحضارة.. وستبقى هذه البصمة الملكية وثيقة يمضي على نهجها المسؤول تذكيراً بما ورد في شأن إدارة المال العام من حديث أبي حميد الساعدي قال (( استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من الأسد يقال له بن اللتبية على الصدقة فلما قدم قال هذا لكم وهذا لي أهدي لي قال فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر فحمد الله وأثنى عليه وقال ما بال عامل أبعثه فيقول هذا لكم وهذا أهدي لي أفلا قعد في بيت أبيه أو في بيت أمه حتى ينظر أيهدى إليه أم لا والذي نفس محمد بيده لا ينال أحد منكم منها شيئا إلا جاء به يوم القيامة يحمله على عنقه بعير له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تيعر ثم رفع يديه حتى رأينا عفرتي إبطيه ثم قال اللهم هل بلغت مرتين))”البخاري2/546” وقوله صلى الله عليه وسلم ((كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته))”البخاري 1/403”. وهدفه حفظه الله الوحيد من هذا الأمر تحقيق العدل والإنصاف و التعقب الصارم للمخالفين ومن عبثوا بمقدرات الوطن الراقية ومكتسباته الكبيرة ، وكما أن فيه الوقفة الصادقة ضد الفساد ، رافعة شعار الصدق والشفافية ، في بعد النظرة الإدارية التي تبني جسراً منيعا يحد من تكرار المشكلة ، وفحوى القرار وصريحه ، إن “الملك عبدالله” لا يرضى ببقاء مسئولين لا يقدرون حجم المسؤولية الوطنية، فليرحل كل متقاعس وليسلم القوس إلى باريها ، فكان الأمر الملكي بلسما شافياً لجراح طالما أرقت أبناء الوطن المنكوبين في مدينة جدة وأقلقت مضاجعهم ، والقرار في النهاية دعوة لجميع مرافق الدولة وقطاعاتها خصوصاً المتصلة بخدمات البلاد والعباد لتوفير بنية تحتية تجنب كل سكان المدن الكوارث ، مفصحة عن إمكانات وقدرات المملكة العالية والحضارية. ومما أثلج الصدر تأكيده يحفظه الله على التحقيق وتقصي الحقائق في أسباب فاجعة جدة الموجعة وتحديد المسؤولية حكوميةً كانت أم شخصية ذات علاقة بالكارثة المحزنة كائناً من كان ، ضارباً حفظه الله بيد من حديد كل حِيلة لكسولٍ عاجزِ عن تحقيق التميز لدولة الإسلام الحضارية ، مشدداً حفظه الله على محاسبة كل مقصر أو متهاون بكل حزم من دون أن تأخذنا في ذلك لومة لائم تجاه من يثبت إخلاله بالأمانة والمسؤولية الملقاة عليه والثقة المناطة به ، مدمراً حفظه الله عروش المتهاونين بمصالح الدولة والمواطن ، مظهراً الشموخ الحضاري لدولة الإسلام والعز ، رافضاً حفظه الله بقوة كل عذر يظهر الوطن الكبير العملاق بمظهر التقزم مما سيعيد الأمور لنصابها ويتلاشى الفساد والضعف إلى غير رجعة ، فأضاف قائلاً “أنه لا يمكن إغفال أن هناك أخطاءً أو تقصيراً من بعض الجهات، ولدينا الشجاعة الكافية للإفصاح عن ذلك، والتصدي له بكل حزم” وبآداب الراعي الورع الشرعي والبراءة لدينه يؤكد حفظه الله قائلاً”من المؤسف له أن مثل هذه الأمطار بمعدلاتها هذه تسقط في شكل شبه يومي على العديد من الدول المتقدمة وغيرها ومنها ما هو أقل من المملكة في الإمكانات والقدرات ولا ينتج عنها خسائر وأضرار مفجعة على نحو ما شهدناه في محافظة جدة وهو ما آلمنا أشد الألم” مبيناً حفظه الله ومعبراً عن همته تجاه ابن البلد والمقيم مطبقاً لقوله صلى الله عليه وسلم (( من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم ))” الطبراني 1/52” متأسيا بالخليفة الراشد سيدنا عمر رضي الله عنه فيما رواه سيدنا علي رضي الله عنه قال: ((رأيت عمر بن الخطّاب رضي الله عنه على قتب يعدو، فقلت:يا أمير المؤمنين أين تذهب؟ قال: بعير نَدَّ من إبل الصدقة أطلبه فقلت: لقد أذللت الخلفاء بعدك، فقال: يا أبا الحسن لا تلمني فوالذي بعث محمداً بالنبوة لو أن عناقاً أخذت بشاطيء الفرات لأخذ بها عمر يوم القيامة))”شعب الإيمان 1/24” محققاً حفظه الله الوفاء بالعهد “هؤلاء المواطنون والمقيمون أمانة في أعناقنا وفي ذمتنا، نقول ذلك صدقاً مع الله قبل كل شيء، ثم تقريراً للواجب الشرعي والنظامي وتحمل تبعاته، مستصحبين في ذلك تبرؤ النبي صلى الله عليه وسلم من صنيع بعض أصحابه فيما ندبهم إليه”.. الأمر الملكي جاء ليضمد جراح الكثير من المواطنين ويشفى صدورهم ، ويضع النقاط على الحروف , ساعياً في إصلاح المسئولين وحماية المواطن من الظلم والممتلكات من الفساد ، فكان قراراً تاريخياً عادلاً يجسد مشاعر الولاء والمحبة القلبية لأبناء شعبه. والله من وراء القصد ،،،