الحلقة الأولى حينما نفتش في تلافيف الذاكرة تنهض شخصيات تسامق النجوم وتحلق بنا في تخوم السماء, تحملنا على جناح الإبداع مستضيئة بنور اليراع المترع الدفاق نحو ذرى الآفاق, فترسم لنا ملامح شخصيات مكية حفرت اسمها في تاريخ الذاكرة الشعبية وأسرت الكثيرين بعطائها اللامحدود من اجل عيون الوطن, وبذا استحقت أن نفرد لها مساحة رحبة لتروي للأجيال مسيرتها الأدبية والثقافية والفكرية والاقتصادية والتعليمية لتنتعش ذاكرتنا بأجمل الطيوب, والشذى الذي ينداح أريجه في الآفاق وفي كل حلقة نقف مع احد هؤلاء الرجال الأفذاذ الذين اثروا الساحة المكية خاصة والسعودية عامة وأصبحوا رواداً يشار إليهم بالبنان. ومن هؤلاء الرجال فضيلة الشيخ عرابي بن محمد صالح بن محمد عبدالله إبراهيم سالم سجيني الشافعي أكثر العلماء الذين خدموا دينهم وبلادهم صدقًا وإخلاصًا وإليه يرجع الفضل في تشكيل القضاء والمحاكم في المملكة وتأسيس كتابة العدل بها وفوق هذا وذاك فهو محامٍ محنك واسع الاطلاع وله إلمام بكل صغيرة وكبيرة وله أسلوب مقنع في إنهاء الخلافات بين الخصوم وهو لا يدخر جهدًا في هذا السبيل وقد أهلته مناقبه العالية ونشاطه لأن يحوز على رضا وتقدير الملك المؤسس عبدالعزيز آل سعود رحمه الله, كما ورث أيضا ضيفنا من آبائه وأجداده مهنة الطوافة فكان متخصصاً بتطويف الحجاج الأتراك . وحقيقة إن الحديث عن هذا الرجل الفذ حديث ذو شجون وعبر, ولمعرفة تفاصيل موجزة عن هذه الشخصية نستقي لضيق المساحات بعض ما ذكره المقربين منه ومن كتبوا عن سيرته العطرة. المولد والنشأة والتعليم ولد بمدينة الطائف في بستان يسمى عرابي في عام 1296ه أثناء قضاء أسرته الصيفية هناك كما هي عادة أهالي الحجاز ولهذا اسماه أباه الشيخ محمد صالح باسم ذلك البستان الذي ولد فيه وليس كما يشاع انه ولد في مكةالمكرمة, وينتمي إلى بيتٍ عريق فاضل عرف ذلك البيت بالعلم والزهد والصلاح والتقوى وهو من أشهر البيوت والأسر في محلة القشاشية وفي مكةالمكرمة فوالده الشيخ محمد صالح هو من الفقهاء الشرعيين واحد المرشدين في المسجد الحرام أما جده الشيخ محمد عبدالله سجيني هو عالم وفقيه له حلقة درس بالمسجد الحرام بالإضافة إلى اعتماد والي مكة عليه كثيرا فكان اماما للوالي رحمهم الله جميعا. وعن تعليمه يقول الأستاذ عمر عبدالجبار رحمه الله في سفره سير وتراجم انه تلقى مبادئ القراءة وحفظ القرآن وتجويده ثم شرع في طلب العلم فأخذه عن العلامة الشيخ عبدالله أبو الخير رئيس المحاكم الشرعية آنذاك ومفتي الحنفية والعلامة الشيخ حسن كاظم والشيخ صالح كمال العلامة الشيخ جعفر لبني فلازمهم وتفقه على يديهم ونبغ في الفرائض وأصبح مرجعا لحل قضايا الوارثين وأجازه مشايخه إجازة عامة. وقد كان لوالده أثرٌ كبيرٌ على تعليمه وانخراطه بحلقات الدروس والمدارس لينهل من ينبوع العلم على يد كبار المشايخ في ذلك العهد. كما أن لجده دوراً أيضا فيما بلغ من العلوم فيقول نجل ضيفنا إبراهيم عرابي سجيني القاضي الشرعي بأمانة العاصمة سابقاً إن والده رحمه الله دائما ما كان يحدثه وإخوانه عن جده محمد عبدالله رحمه الله ويروي لهم عن جهاده في طلب العلم ومداومته وحبه له, مما ترك ذلك في نفسه الدافع والتشجيع لطلب العلم. ويقول عبدالجبار حين تم افتتاح مدارس الفلاح بمكةالمكرمة في عام 1323ه أسرع الشيخ عرابي سجيني إلى تلقي العلم وانتهال المعرفة عن الشيخ محمد حامد الذي كان مديراً للمدارس وكانت حلقته بباب الصفا فأخذ عنه اللغة العربية والتفسير والحديث فازداد علما وتقوى وتمسكا بالهدي النبوي ثم قام برحلة إلى مصر ومنها إلى تركيا وصادف أن أعلنت الثورة العربية عام 1337ه. أعماله يقول الزميل الإعلامي الدكتور زهير محمد جميل كتبي عن الأعمال التي تقلدها ضيفنا الشيخ عرابي سجيني انه اشتغل بمهنة المحاماة في بداية حياته العملية وذلك بتزكية من كبار العلماء لكونه كان على علم وقدرة على تحمل هذه المسؤولية لما يحظى به من اطلاع بأحكام القرآن الكريم وأصول الفقه وهذا ما مكنه ليكون محاميا مشهورا , ومن العلماء الذين رشحوا الشيخ عرابي بالعمل بالمحاماة معلمه الشيخ محمد سعيد أبو الخير والسيد محمد علي مالكي ,حيث كان منزله مرجعا يقصده ذوو القضايا فيحلها بالتوفيق والإصلاح في هدوء ووقار, فهو لم يكن أشهر المحامين بل كان من أقدرهم واشطرهم ويمكن القول انه من أوائل المحامين بالمملكة. حيث كانت مهنة المحاماة في الحجاز في ذلك العهد لا تخضع لأي تنظيم إداري سواء في عقد الجلسات أو غيرها ولم يكن نظامها مستمدا إلا من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة. فالفقه الإسلامي هو بيان الحكم في كل مسالة فقد كان المحامي يقوم بتقديم عريضته ويرفق بها الدعوة ويرصدها للقاضي الذي يقوم بدوره بطلب حضور المتخاصمين في موعد محدد ويوجه الدعوة وتأخذ فيما بعد القضية شكل المحاماة إلى أن يتهيأ للقاضي الأسباب الموجبة للحكم. ويضيف نجله الشيخ إبراهيم عرابي انه كان يحضر دائما كثيراً من الجلسات التي كانت تعج بالكثير من الخصوم وكان يرى ما يقوم به والده بانجازات عظيمه في أمور الصلح بين الأطراف المتنازعة. كما يضيف أن دارهم كانت مقصدا لأصحاب الخصومات سواء كانت تلك الخصومات شخصية أو مالية أو جنائية إلى آخره, فكان والده رحمه الله يحاول أن يصلح بين أطراف النزاع ويختار واحدا منهم في المرافعة ويترك الشخص البعيد عن الصواب ويتولى الدفاع عن الآخر بتوكيل منه أمام جميع الهيئات. فكان الشيخ عرابي لا يأخذ أجرا سوى ما يقدم له دون أن يشرط له ومن لم يعطه لا يطلب. ويذكر نجله الشيخ إبراهيم أن شخصا ما كان يتردد عليه لحل مشاكله لأكثر من خمس سنوات ولم يعطه ريالا واحدا قط فلم يتوان الشيخ عرابي عن خدمته. كما ذكر الدكتور الكتبي الذي سبق وان تناول سيرة هذا الشيخ الجليل في إحدى سلسة أسفاره عن رجالات مكةالمكرمة أن الشيخ عرابي رحمه الله كان يلتقي بأصدقائه بمنزله بشكل أسبوعي ولكن ذلك الاجتماع توقف لأسباب خارجه عن إرادته كون أن الشريف الحسين بن علي ملك الحجاز في تلك الفترة توجس شرا من هذه اللقاءات كعادته يشك في أي اجتماعات خوفا على ملكه فتربص الشريف بالشيخ عرابي سجيني ومنعه من مزاولة المحاماة وظل يضيق عليه حتى أمر بإيداعه السجن فصبر الشيخ عرابي رحمه الله على ما ابتلي به من البلاء واستسلم لقضاء الله وقدره حتى أفرج عنه فلزم بيته وعكف على المطالعة والبحث في حل غامض المشاكل فلم يشتغل في العهد الهاشمي أو يتولى أي منصبٍ خلال فترة تولي الشريف الحسين بن علي مقاليد الحكم على الحجاز. الضيف في العهد السعودي وعندما تولى الملك عبدالعزيز آل سعود رحمه الله مقاليد الحكم على الحجاز يقول الدكتور زهير كتبي نشط الشيخ عرابي سجيني من عقاله فسطع نجمه وبرزت مواهبه وأوعز الملك مستشاره الشيخ حافظ وهبة وفضيلة العلامة الشيخ عبدالله بن بليهد بناء على طلب من الملك عبدالعزيز بتشكيل القضاء في الحجاز وتوسيع أعماله وتأسيس إدارة كاتب عدل بجانب نخبة من العلماء منهم الشيخ محمد المرزوقي والشيخ محمد أمين كتبي تحت رئاسة الشيخ حافظ وهبه وكان نتيجة لذلك التشكيل نشوء المحاكم الكبرى والمحاكم المستعجلة الأولى والثانية وكتابة العدل وبيوت المال التي تأسست جميعها في عهد الملك عبدالعزيز فكان موفقا ومن معه في تنفيذ ما اسند إليه في تكوينها وإسناد الوظائف إلى الأكفاء فكان موضع تقدير الحكومة وإعجابها . كما ذكر الأستاذ عمر عبدالجبار انه في 15 شعبان 1344ه تم تعيين الشيخ عرابي سجيني أمينا لبيت مال المسلمين فقام بمهمته في أمانه وإخلاص ونزاهة كما صدر الملك عبدالعزيز أمره السامي الكريم بتعيينه نائبا لرئيس المحكمة الكبرى الشيخ احمد كماخي في مكةالمكرمة بتاريخ 22 صفر 1346ه فملأ المنصب الذي شغله وأبدى نشاطا وكفاية لحل القضايا التي أسندت إليه خلال توليه المنصب. كما اصدر الملك عبدالعزيز أمراً آخر بتعيينه في غرة ربيع الأول 1351ه كأول مدير لأعمال كتابة العدل بالمملكة فظل في عمله زهاء عشر سنوات حيث كانت أعمال كتابة العدل جزءا من أعمال المحاكم الشرعية ثم ضمت إلى الشيخ العرابي رئاسة المحكمة الكبرى لفترة كان خلالها ملء السمع والبصر في حديث المجالس عن رحابة صدره وحل النزاع بين الخصوم إلى أن استقل برئاسة كاتب العدل إلى أن صدر الملك عبدالعزيز أمراً ملكياً في عام 1371ه بنقله إلى رئاسة المحكمة الكبرى مرة أخرى ولكنه اعتذر لجلالته لكبر سنه وعدم استطاعته بالقيام بمهمات أعمال القضاء فكتب الملك عبدالعزيز إلى نائبه سمو الأمير فيصل في الحجاز رحمهم الله جميعا يطلب فيه النظر في أمر الشيخ عرابي سجيني فرد سمو الأمير فيصل على خطاب الملك يقترح عليه إذا كان لابد من خروج الشيخ عرابي من رئاسة القضاء فلا بأس ولكن بشرط بقائه في رئاسة كتابة العدل للاستفادة من خبراته وقدراته ولعدم وجود من يقوم بها إذ ذاك فأمر ببقائه في رئاسة كتابة العدل حيث رأى الفيصل رحمه الله أن إحالة الشيخ عرابي للتقاعد خسارة على القضاء وكتابة العدل. ويقول الدكتور الكتبي إن الشيخ عرابي كان يحظى بثقة لا حدود لها من ولاة الأمر ولهذا لم يكن أمامه بعد تمسك الملك عبدالعزيز ونجله الفيصل نائبه في الحجاز في تلك الفترة سوى تلبية نداء الواجب الوطني ورغبة ولاة الأمر لتقديم خدماته لأبناء وطنه الغالي فوافق على اقتراح الفيصل بن عبدالعزيز احتراما وتقديرا لرغباتهم وما يقتضيه الواجب الوطني. فأسندت إليه كتابة العدل حتى انه كان يباشر عمله يوميا متكئا على عكازه حتى اشتد به الكبر فلم يستطع المشي كثيرا فاستقر به الأمر في ممارسة مهماته الوظيفية وحل قضايا الناس في خلوة بمنزله بالقرب من الحميدية التي جعلها مقرا لسكنه وعمله في وقت واحد إلى أن توفي رحمه الله. كما يذكر الأستاذ عمر عبدالجبار أن الشيخ عرابي حينما وافق على رغبة ولاة الأمر أسند أليه أيضا منصب نائب رئيس مجلس الأوقاف الأعلى بجانب كتابة العدل فقام بالوظيفتين خير قيام حيث كان مجلس المعارف لا يبت في أي قرار إلا بعد الرجوع واخذ رأي الشيخ عرابي واستشارته من الناحية الشرعية لما له من خبره واطلاع بهذه المسائل وهو إلى جانب ذلك كان يكلف بالاشتراك في اللجان التي كان يصدر المؤسس رحمه الله بتشكيلها فكان يشغل معظم أوقاته بمهمات وظيفية في إدارته ومنزله ومدرسته التي كان يعتكف بها متقربا إلى الله بعبادته. فكان الشيخ عرابي بجانب معلوماته وتجاربه وخبرته وحنكته كان إلى آخر أيامه قوي الذاكرة بحيث يذكر الشخص المراجع أن هذا المنزل اشتراه فلان منذ أربعين سنة ثم باعه عام كذا وحدث بينه وبين فلان خلاف في الحدود. ويقول الأستاذ عمر عبدالجبار في رواية حضرها : (اذكر إني حضرت يوما في مدرسته وكان أمامه شخصان متبايعان فسأل احدهما عن اسمه وقبل أن ينطق باسم أبيه قال له رحمه الله أنت ابن فلان وقد كان جدك رحمه الله يشتري المنازل ثم يبيعها بربح فقد اشترى كذا وكذا وباعه على فلان بكذا ثم ضاع الصك فلجأ إلي فذكرته بتاريخه فتحصل عليه فبهت الرجل واكبر الجالسون قوة ذاكرة الشيخ عرابي سجيني وحافظته). وكان رحمه الله إلى آخر أيامه ورغم اعتلال صحته يستقبل أصحاب القضايا ويحل مشاكلهم ويصلح بين الخصوم قبل وصولهم إلى المحاكم ممتلكا هدوء أعصابه ومغتفراً لهم زلاتهم.