حين يجتاح الحزن المرء، قد يفقده صوابه، وقد ينير طريقه، لكن الفقد ليس كأي حزن، لاسيّما حين تخسر شريكًا وفنارًا في الحياة، وكل التفاصيل من حولك تذكّرك به، كل العيون الناظرة إليك تبحث عن إجابات للغياب، أما عندما تكون أبًا وعليك أن تفسّر غياب الأم فنحن هنا أمام المأساة بكل تفاصيلها تتجدّد كل صباح، تنتظر شمسًا أن تشرق ولا تشرق على القلب الحزين الباكي. نحن هنا أمام الإنسان في أضعف حالاته داخليًا وأقواها خارجيًا، حين لا يكون للصمت مكان، ولا للدمع عنوان واحد يندرج تحته. الشيخ سلمان العود يعيش هذه اللحظات بكل ما فيها من قسوة، بنفس راضية مطمئنة بالله، بعد مرور أسبوعين على رحيل شريكة عمره، الفاضلة هيا السياري، تلك الروح التي فاضت إثر حادث مروري، تركت أرواحًا خلفها تنتظر النور مرّة أخرى ليشرق من جديد. موتها فتح العين على النهاية: وفي مقاله “الصباح مرة أخرى”، كشف الشيخ العودة، أنّه تعلّم من الراحلة “لغة الدموع”، مبرزًا أنَّ الروح هي الباكية لا العين تذرف دمعًا، ومؤكّدًا أنَّه “لن يستقر الحزن إلى النهاية. الإيمان يصنع الرضا، ويسكب السكينة، ويمدّ جسور التواصل مع الراحلين”. لم يخلق الله الدمع لامرئ عبثاً الله أدرى بلوعة الحَزَنِ ويعود الدكتور العودة إلى الحياة، واضعًا حدًا للكآبة التي تفسدها، مخاطبًا زوجته الراحلة “موتكِ فتح عيوني على النهاية، جعلني أستبق الساعات قبل أن تتوقف، الموت ليس دعوة للانسحاب، أو هجر الحياة، أو تسخط القدر، الموت على وحشته ليس كسرًا للرقم، شجرة العائلة باقيةٌ كما هي: الأب والأم والبنت والأبناء السبعة، اثنان منهم سبقوا، والباقون لا زالوا تحت شجرة الحياة”. ودٌّ واستلهام.. صبرٌ على الابتلاء ومحاكاة للحياة: نعم هو الرحيل حين يفرض نفسه على الآباء، فتجدهم يحملون المسؤولية كاملة، هذه الصورة التي تنعكس هنا بقوّة، حينما يلج العودة عالم استلهام الذكريات إذ قال “عليّ أن أحاكي مشاعركِ تجاه أولادك الباقين، وأترسّم حكمتك وبصيرتك، وأكون لهم الأب والأم والصديق، وسأراجع دروسي معك، وأستلهم من سيرتك وإحساسك بالمسؤولية درساً مفيداً، ولو كان متأخرًا”. وأضاف، ذكَّرني صديق بأبيات كنت أرددها للشاعر عبد الرحمن بارود: بودادي لديك هون عليك الأمر لا بد من زوال المصابِ سوف يصفو لك الزمانُ وتأتيك ظعون الأحبة الغيّاب وليالي الأحزان ترحل فالأحزان مثل المسافر الجواب أما ظعون الأحبة الغيّاب، فلا أمل في عودتها، نحن سنلحق بها، يمكنني النظر إلى الموت على أنه وصل ولقاء، لقد ظفر بكم من أحبوكم وسبقوكم إلى الدار الآخرة، ويحق لي أن أتفاءل على طريقة معاذ بن جبل: (غدًا نلقى الأحبة). أرواح تتعانق تحت ظلال الإيمان: وبعيدًا عن السقوط في فخِّ الحزن، والاكتئاب، والقنوط من رحمة الله، استلهم الشيخ العودة صورة من حياة أخرى، قائلاً “ها هي روحي تحاول أن تعانق روحك وتريد أن تراك طيراً أخضر يحلق في شجر الجنة بلا قيود. وأردف “أما ليالي الأحزان فيجب أن ترحل؛ لأن الله يحب أن نعيش الحياة باغتباط وأمل، ولأن الراحلين يحبون أن يسمعوا وهم هناك في مدافنهم أننا بخير، واصلنا المسير كما يتمنون، ورسمنا ذكراهم في وجداننا إلى الأبد، وجعلناهم شركاء في كل عمل نقوم به، ولم نركن إلى اجترار آلامنا ومآسينا، لن ننساهم، وكيف ينسى المرء قطعة من روحه؟ أو بضعة من جسده؟ “. فراق مباغت ومواساة صادقة تلهم السلوان: وأعرب الشيخ العودة عن امتنانه لكل من واساه ودعمه وأسرته في مصابهم، مبرزًا أنَّه “كنا نتقاسم معهم الأحزان، أما حزن فراقهم المباغت فتقاسمناه مع أرواح مؤمنة صادقة وفيَّة ساندت ودعمت ودعت، وعاشت الحزن وكأن المصيبة وقعت عليها هي، لقد تضاعف إيماني بصدقكم أيها الأحبة وبصفاء مشاعركم ونبلكم العظيم، إني حقاً عاجز عن شكركم”. وأردف مرّة أخرى مخاطبًا الغالية التي رحلت “أهنئك على الجموع التي صلَّت ودعت وعزَّت، وأقول لنفسي: إن كنت سأظفر بمثل هذا يوم رحيلي فهو شيء عظيم. أتفرّس في وجوه المعزين فأتذكر أنني عزيتهم يوماً ما برحيل حبيب، المصائب لا تستثني أحداً، وليست حدثاً عشوائياً كما نظن، هي أحداث مرتبة لها أسرار مخزونة في عالم الغيب {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} (التغابن:11)”. واستطرد “كلهم قالوا لي أن الحياة يجب أن تسير، وأن قدرنا هو أن نصبر ونرضى ونسعى لاستئناف الطريق، ولا نسمح للحزن أن يحول حياتنا إلى (حداد) دائم!”. روح عبدالوهاب ترشد إلى تجاهل الطوفان واستثمار الفجيعة: ما من كلمات تصف الرحيل والحزن، لكن حين يرسل الله من يأخذ بيدك وينير بصيرتك فأنت من المحبوبين لديه، إذ قال الدكتور العودة “لم أكن لوحدي، (عبد الوهاب) كان منذ اللحظة الأولى يشير بيده وروحه إلى الطريق، ويرشد إلى تجاهل طوفان الأسئلة المباغتة، وإلى التفكير في الواجبات الفورية، وترك الأمر لله، وكل شيء يتسهّل بإذنه”. وتابع “في قلبي كان الإحساس بالله الذي يأخذ ليعطي، وأخذه رحمة، وعطاؤه نعمة، كان إحساسي منذ البداية أن عليّ استثمار الفجيعة والحزن في الاقتراب من الله، وتسريع التوبة، وإنجاز ما يمكن إنجازه دون تأخير”. وأكمل “علَّمني الرحيل المفاجئ بأن ألتفت لمن حولي أكثر، ألا أمد عيني بعيدًا لما لا أملكه، سألتفت للتفاصيل الصغيرة أعيشها لحظة بلحظة قبل أن تكبر وتتشكّل منها الفاجعة.. الحزن نار تنضج مشاعرنا، وتصنع ذواتنا، وتربينا على الإحساس بآلام الآخرين ومعاناتهم والوقوف معهم”. لدن.. حنان الأنثى في روح طفلة: تعجز الكلمات حين يكون خبر الفجيعة مبتدأ. كاشفًا عن تلك اللحظات التي أقرب ما تكون إلى الحلم، إلى غيم يفكّ مفاصل الكلمات بالغيث قال العودة “كنت أتساءل: كيف أخبر (لدن) بفجيعتها؟ وحين تجرأت وصارحتها بالخبر رأت دموعي فسارعت بحنان أنثى تمسحها بالمنديل! لم أرها تبكي، حين يكون الله معك فلا حزن ولا خوف، {أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا} (فصلت:30)”. حديث كنت أضجر منه ورؤيا باتت حقيقة: وأبرز العودة: ما أكثر ما كانت الأم تستودع الله صغارها وهي توقن بأنها ستغادرهم وأنَّ رحيلها قريب قريب! ذلك الحديث الذي كنت أضجر منه.. وأقول: لا تطري الفرقا على المحزون ما واطن الفرقا وطاريها.. وخاطب راحلته الغالية قائلاً “لم أكن أدري أنكِ أحطتِ بما لم أحطْ به، كانت رؤيا، وكان إلهاماً، وكان أمر الله قدراً مقدورًا. حقًا.. لقد صرت أضعف، لم أعد متماسكاً كما يجب، لقد عزّيت الأطفال فاندمجوا في الحياة ولكني عدت طفلاً لا يستحي من حزنه ودموعه! ولكن عليّ ألا أقسو على نفسي، والله لا يؤاخذ بحزن القلب ولا بدمع العين، ولكن بما يجري على اللسان”. مزامير الفجيعة وزيارات الحزن: ويواصل الدكتور العودة ضرب الأمثلة في الصبر على الابتلاء، قائلاً “يعتادني الحزن على شكل موجات متتابعة، تنكسر إحداها لتبدأ الأخرى، وكأنها تتلو عليّ مزامير الفجيعة والذهول، وترسم صوراً تخيلية لما جرى، وكيف جرى؟ ولماذا جرى؟ ويندس الشيطان ليملي: لو.. لو.. وهل يُنجي حَذَرٌ مِنْ قَدَرٍ؟ قدَّر الله وما شاء فعل. ليس شيئاً سيئاً أن أشعر بالذنب تجاه الراحلين، كان بإمكاني أن أكون أحسن مما كنت، لم أكن أشعر بقيمة وجودهم كما أشعر الآن وقد انتقلوا إلى الضفة الأخرى. كن كما نودُّ ولا تنسى العهد: رسالة أخيرة وجهها الشيخ الدكتور سلمان العودة في ختام مقاله، رسّخ فيها أنَّ كل شيء بقدر. واستدرك “بيد أنَّ الأشياء الجميلة تغادرنا أسرع من غيرها. والموت نقاد على كفه جواهر يختار منها الثمين الذين غادرونا هم الأفضل منا؛ الأصدق إيماناً، والأطهر قلوباً، والأقوى صبراً، والأكرم عطاءً، وهم إلى الله أقرب فيما نحسب. حتى في موتهم منحوني دروساً عميقة عليَّ ألا أنساها هذه المرة. لقد جعلوا الموت حقيقة ماثلة قريبة، ودعوني إلى مسابقة الزمن واستثمار الحياة. وكأني أراهم يلوحون لي من بعيد، من هناك. كن كما نودّ ولا تنسى العهد”.