استغرب مراقبون التعنُّت الإيراني من خلال وفد شؤون الحج لديهم، حينما رفض التوقيع على محضر الاتفاق لإنهاء ترتيبات حج هذا العام (1437ه)، بسبب مطالب لا أساس لها، خصوصاً أن الكثير من المعطيات التاريخية تؤكد أن بعثتهم في الحج هي الأكثر افتعالاً للإشكاليات والأحداث التي لا تليق ب “الركن الخامس”، ولعل آخرها ملامح تورُّط عناصر من حرسها الثوري في جريمة “تدافع مشعر منى” خلال الحج الفائت. رغم العلاقات الدبلوماسية المقطوعة بأسبابها الموضوعية من قبل السعودية، بعد الإرهاب المفتعل ضد السفارة في طهران والقنصلية بمشهد، إلا أن من بين المطالب التي جعلت الوفد الإيراني يرفض التوقيع على ترتيبات الحج، أنهم طالبوا بمنح تأشيرات حجاجهم من داخل إيران. هنا ينطبق تماماً مثل “شر البلية ما يضحك” على هذه الواقعة، خصوصاً عندما نتذكر ما كشفه الدبلوماسي الإيراني المنشق فرزاد فرهنكيان بعد أيام قلائل من حادثة تدافع الحج الأخير (في 4 أكتوبر الماضي تحديداً)، حينما أكد أن 6 من ضباط الحرس الثوري هم الذين افتعلوا الحادث. لماذا حذر مسؤول إيراني باللغة العربية قبل الحج؟ اتهم الدبلوماسي فرهنكيان، في ذلك الوقت، طهران بالسعي لتنفيذ مخطط يهدف إلى “سقوط أكبر عدد من الوفيات وقيام مظاهرات كبيرة تتخللها أعمال عنف” في موسم الحج، على حد قوله. والمدهش أن فرهنكيان كتب في مدوّنة له باللغة العربية وهو يذكّر بتحذيرات له قبل الحج، وقال: “قبل حلول موعد الحج كتبت وحذرت من عمليات إرهاب مخطط لها من نظام خامنئي في موسم الحج، فالمعلومات التي ذكرتها سابقاً أثق جيداً بمن ذكرها لي. وبعد الحادثة ظهرت تصاريح تجاوزت جميع الأعراف السياسية من نظام خامنئي، فما هي الأسباب لذلك؟”. يحق لهذا “الفرهنكيان” أن يطرح هذا التساؤل المهم، خصوصاً إذا علمنا أنه قبل انشقاقه عمل كمستشار بوزارة الخارجية الإيرانية ثم انتقل للعمل في سفارة ممثليات بلاده في كل من دبي وبغداد والرباط وصنعاء، وآخر مهمة قام بها كانت في منصب الرجل الثاني في السفارة الإيرانية في بلجيكا. لا شك أن من عمل في سفارات 4 دول عربية، بينها حالة “تماس” العراق واليمن، ومن عمل مستشاراً في الخارجية الإيرانية، يمكن أن يكون ملماً بالكثير من المعلومات الخطيرة، فكيف لا يمكن الوثوق بما أدلى به؟ الحج والحرس الثوري بعد أن تناثرت أنباء تورُّط الحرس الثوري الإيراني في جريمة التدافع بالحج، بادرت وكالة “تسنيم” الإيرانية آنذاك، بنشر سيناريو تضليلي إيراني جديد يفيد أن “حادثة التدافع في منى ربما حدثت بقصد استهداف مسؤولين في الحرس الثوري الإيراني ومسؤولين إيرانيين، من بينهم دبلوماسيون، والعمل على اختطافهم”، بحسب زعمها. وحتى يتم التأكيد على جرائم الحرس الثوري في عدد من الدول العربية، يكفي ما كشفه قائده اللواء محمد علي جعفري في 14 يناير الماضي، عن وجود نحو 200 ألف مقاتل في عدد من دول المنطقة، حينما ألقى المزيد من الضوء على التورُّط الإيراني في الحروب الدائرة في تلك الدول، وحدد 5 دول تحديدا من المنطقة هي: سورياوالعراق واليمن وأفغانستان وباكستان. هذا “الحرس الثوري” يدرب خلايا إرهابية من جنسيات عربية في معسكر “الإمام علي” في شمال طهران، ومعسكر “أمير المؤمنين” في كرج غرب طهران، ومعسكر “مرصاد” في شيراز الذي يعتبر من أهم مراكز تدريب المقاتلين الأجانب. وبحسب مصادر إيرانية، درب الحرس الثوري في معسكراته هذه ميليشيات عراقية وخلايا إرهابية تابعة له في الخليج ومقاتلين من أفغانستان والشيشان. ولا شك أن الخلايا الخليجية توكل لها عمليات داخل السعودية، كما وثقت بعد الجرائم الإرهابية في استهداف المساجد، وعمليات فوضى سابقة في مواسم الحج. “الوحدة 400” من “فيلق القدس” لنا أنا نعلم أن أبرز ذراع خارجي للحرس الثوري الإيراني هو “فيلق القدس”، الذي يترأسه منذ عام 1998 العميد قاسم سليماني الذي وضع اسمه في العام 2011 ضمن قائمة الارهاب الأمريكية، في أعقاب الكشف عن دوره في الخطة الايرانية لاغتيال عادل الجبير حينما كان سفيراً في أمريكا، وانتدبته إيران أخيرا ليكون على رأس المهام القتالية ضد كتائب الثوار في جنوب درعا بسوريا. ويعمل فيلق القدس كرأس حربة لتصدير الثورة الإيرانية والعمليات الارهابية والتآمر في الخارج بشكل أساسي، وقد أنشأ من أجل بناء إطار تنظيمي مرتب للنشاطات التنفيذية والسياسية، التي تتم لتطبيق فكرة “تصدير الثورة” خارج حدود إيران. وضمن “فيلق القدس” هناك وحدة سرية أطلق عليها اسم “الوحدة 400″، منوط بها تنفيذ عمليات خاصة في الخارج بتوجيه مباشر من المرشد علي خامنئي، ويترأسها الجنرال حامد عبد الإله، ومن أبرز شخصياتها الجنرال مجيد علاوي الذي شغل سابقاً منصب نائب وزير الاستخبارات ويعتبر رجل الاتصال في النشاط المشترك مع حزب الله، ويسافر كل شهر الى سوريا ولبنان, وهي وحدة العمليات الخاصة الأكثر تدريباً وتجهيزاً. ومن مهام الوحدة إنشاء الخلايا الاستخباراتية في العالم، ونشر وتصدير قيم إيران، عن طريق اقامة المنظمات الخيرية والتعليمية والطبية في مناطق متفرقة من العالم، خصوصاً في الشرق الأوسط الذي تشرف على أبرزها هذه الوحدة. وقد اعترف بهذا بشكل صريح نائب قائد فيلق القدس ونائب قائد الحرس الثوري لشؤون الاستخبارات الوقائية الجنرال إسماعيل كآني، فعندما تتخذ إيران قراراً بتنفيذ عملية ارهابية، يقوم القائد المرشد الأعلى الخامنئي بإصدار تعليمات مباشرة بهذا إلى قاسم سليماني ومنه إلى “الوحدة 400″، حيث يقوم نشطاء الوحدة بتجنيد متعاونين أجانب لصالح الخلية التي تنفذ العملية، ويقومون بإرشادهم وتدريبهم في إيران، ومن ثم يقومون بإعادتهم الى الساحة المستهدفة عن طريق دولة ثالثة من أجل اخفاء الأثر الإيراني. وسط كل هذه الحقائق التي باتت مكشوفة على المستوى الرسمي والشعبي عربياً وإسلامياً، يبدو أنه لم يكن أمام نظام ملالي إيران سوى المناورة برفض إرسالها حجاجها إلى الأراضي المقدسة، في محاولة يائسة ل”تسييس شعيرة الحج”، وهو ما رفضه مجلس الوزراء السعودي بكل حزم.