في زمن تَولَّى كان الناس في الجزيرة العربية يعيشون حالةً من الفقر والفاقة والمسغبة إلا قلة قليلة منهم، وقتَها كان للكَرم قيمتُه، ثم إن المُكرِم ليس في قاموسه أن يُقال عنه غدًا كذا وكذا، وربما يكون هو وعياله في أمس الحاجة لما قدمه لضيفه، وهنا تتجلى أسمى صور الكَرَم لأن المُكرِم في وضع (الخصاصة)، والمُكرَم يُكرَم لأنه في وضع الحاجة؛ فقد يكون مسافرًا تقطعت به السُّبُل أو معدَمًا أو أصابته جائحة. الضيافة مستمرة ما استمرت الحياة، والفارق بين ضيافة الماضي والحاضر هو أن ضيافة الماضي كانت بحق المُكرِم تُعد كَرَمًا حقيقيًّا وبحق المُكرَم تعد ضرورة ملحَّة، أما ضيافة اليوم فأصبحت -في معظمها- مباهاةً من المكرِم وقياسَ قَدْرٍ من المُكرَم؛ فلم يعد المكرِم يُكرِم على عَوز، ولم يعد المكرَم يُكرَم لأنه في حاجة، وبذا تنتفي أهم خصائص (الكَرَم) وهي أن يكون قطبا الضيافة (المُكرِم والمُكرَم) الأول على الكفاف هذا إن لم يكن معوزًا، والآخر فقيرًا معدمًا أو مسافرًا تقطعت به السبل. وبما أن الضيوف تتعدد صفاتهم وطباعهم بين ظريف وعبوس، ومتعجل وثقيل، وذي مصلحة وذي نفع، ومنهم من تعقبه البركة، ومنهم من تعقبه الرزايا، ومنهم من يولِّي ويتبعه الدعاء عليه بألا يعود، ومنهم من تتبعه الدعوات الصادقة بأن يكرر الزيارة، فإنه يحسُن بنا أن نتعرف على ضيوفٍ من نوع آخر، ضيوفٍ لا يُثقِلون على صاحب الدار، ولا ينازعونه مجلسه ولا طعامه وشرابه، ضيوفٍ لا يرهقون كاهل المكرِم ماديًّا ولا معنويًّا، مشكلتهم الوحيدة أنهم يشترطون على المكرِم أن يذهب بنفسه ليستقطبهم ويتخيرهم كما يتخير أطايب الطعام ثم يحملهم إلى داره، في تشابُهٍ مع ضيافة هذا الزمن حين يذهب المكرِم إلى المكرَم ويقصم ظهره بسيف الأيمان المغلظة والطلاق والحرام حتى ينقاد له ويدلف إلى داره. نقطة التبايُن بين الضيفَين السالفة صفاتهما أن أحدهما تتطلب ضيافته مالاً ووقتًا وارتباطًا وإشغالاً لأهل البيت، وفي الغالب يخرج دون أن يترك أثرًا ذا فائدة أو علمًا نافعًا، والآخر لا تتطلب ضيافته ارتباطًا ولا إشغالاً لأهل البيت، بل إنه يُكسِب المُكرِمَ فوائد جمة. وعلى هذا اصطحبتُ نهاية الأسبوع الماضي صديقًا وذهبنا إلى جدة كي أحظى بضيوفٍ من الذين يتركون الأثر النافع، فلما وصلنا جدة قابلت عددًا هائلاً من الضيوف النبلاء الذين لم تتطلب استضافتهم أيمانًا مغلَّظة ولا طلاقًا ولا حرامًا. هؤلاء الضيوف كانوا متواجدين بكثرة في أرض الفعاليات بأبحر الجنوبية من مختلف بقاع الأرض، وكان العلمُ والحكمة والوقار شعارَهم، وإكسابُ الُمكرِم الفوائد غايتَهم، وزيادةُ معارفه ووعيه وتنويرُ بصيرته هدفَهم. ولذا اصطحبت ثلة منهم وبدأت في استنطاق أحدهم طوال طريق العودة -وكان رشيقَ الجسم- فياله من ضيف أمتع الروح وأسعد القلب. ولما وصلت بلدتي وجدت ضيفًا -ممن قابلتهم في جدة- وقد سبقني إليها بواسطة مولاه وكان الضيف يميل إلى البدانة، فشرعت مباشرة في استنطاقه، فكان بحرًا زاخرًا بالأدب والمعرفة، جاذبًا للروح، ضاربًا ضرب محترف على أوتار الوعي والفكر، ثم إنني أنزلت ضيوفي جميعَهم منزلاً يرضونه، وكل منهم ينتظر دوره في عملية الاستنطاق. فأكرم بهم من ضيوف جميلِي المنظر، حِسَان المخبر.. ولذا تخيَّرُوا ضيوفَكم. [email protected]