تابعتُ عدة حلقات من المسلسل الأجنبي المُتلفز «غرايز أناتومي»، وأحببت الإشارة إليه كمثال على الأعمال المهنية الرفيعة، والتحف الفنية الرائعة التي احترمت عقل المشاهد، واجتمعت فيها عوامل الإبداع التمثيلي، وقوة الأداء الفردي والجماعي، وجمال التصوير، وحبكة الإخراج، الذي يلمس مشاعر كثير من المشاهدين، ويثير انتباههم، بغض النظر عن اختلاف بعض القيم والأخلاقيات التي لا تتوافق مع الشريعة السمحة والتقاليد العريقة، فعلى الرغم من أن أحداث المسلسل تُصوَّر في مستشفى تعليمي، وتدور حول كوادر طبية ومرضى بأمراض مُختلفة، إلا أن ذلك لم يحل بين المعلومة الطبية الدقيقة أو الصحية العامة واقترابها من عقل المشاهد، ولم تجعله يبذل جهدًا كبيرًا لفهم المواقف الدرامية بتفاصيلها، كما ناقشت بعض المشاعر العاطفية والارتباطات الاجتماعية، وسلطت الأضواء على بعض تفاصيل العلاقات الإنسانية المعقدة بأسلوب فني مميز، فأسهم هكذا مسلسل في إثراء الثقافة الصحية والمرجعية الطبية للمشاهد، والتعريف بأمراض لا يسمع عنها كثيرون أو يفهمون مهيتها إلا من متخصصين. لا شك في أن الإنتاج التلفزيوني والسينمائي، لم يعد مجرد هواية صبيانية أو تجربة تتهددها عوامل الفشل، ولا مُحاولات أفراد جمعتهم هواية التمثيل وأوقات الفراغ وقرروا إنتاج مسلسل بما تيسر من إمكانات، فقد دأبت بعض المؤسسات الإعلامية والفنية العربية - وللأسف الشديد - على الاستخفاف بعقلية المُشاهد، وتجاهل حسه الفني وذوقه الإنساني، فقدّمت له وجبة فنية غير مستساغة، وعملا دراميًا أو هزليًا سمجًا، يهزأ من وعيه الدرامي، ويُشعره بالإحباط والغُبن، فلغة التواصل المفقودة بين العمل الفني والمشاهد، واتساع الفجوة بين الأداء التمثيلي واقتناع الجمهور، أصبحت ميزة لكثير من الأعمال العربية الفنية الهابطة التي لاحظّ لها من الفن إلا اسمه. من الضروري لأي مجتمع مدني، وفي سعيه للحفاظ على تراثه وهويته، أن ينظر إلى الأعمال التلفزيونية والسينمائية بوصفها صناعة قائمة بذاتها، تعكس واجهته الحضارية، تُنشأ لها المعاهد الفنية، والكلّيات الثقافية، وتُرصد لها الميزانيات التي تتناسب مع قيمتها الثمينة، وتُبنى لها الاستديوهات الضخمة، وتتوافر لها الخبرات البشرية والإمكانيات التقنية، ليس من أجل المتعة والتسلية فحسب، بل أيضًا من أجل التحفيز على الإبداع الفكري، وإيصال رسائل تاريخية وثقافية وأخلاقية أصيلة، وإيجاد حلول لكثير من المشكلات الاجتماعية، والمشاركة في بناء أجيال تتذوق الفن الرفيع وتعي معاني الأدب، بأسلوب شيق وجذاب. [email protected]