يبدو أن أحدث ماتفتقت عنه عقول الرقاة من أفانين، هو الرقية عن بعد أو الرقية «الافتراضية» عن طريق الأجهزة الذكية ، فلم يعد التواجد في الحيز المكاني نفسه شرطاً لتحقق الرقية مفعولها النافذ ! وكانت إحدى السيدات قد أكدت لي أن راقية غنية مقتدرة من إحدى الدول المجاورة -والتي تعرفها تمام المعرفة- تتبرع بخدماتها «الجليلة « مجاناً طمعاً في الثواب ، وذلك عبر الموجات الرقمية وبرامج الاتصال بالانترنت !. وهذه الخدمات التطوعية تشمل فك السحر والرقية من العين الحاسدة ، بل وتصل براعتها الفائقة حدّ إخراج الجن المتلبس بالإنسان ، وكل ذلك -ياسبحان الله- يتم عبر الفيافي والمسافات ! ثم راحت تروي قصص الحالات التي شفيت على يد هذه الراقية الجهبذية سواء عن قرب وملامسة أو عن بعد ، فَسِرُّها « باتع» في فك أحجيات الأعمال السحرية ، والتواصل مع العوالم السفلية ! فما إن تدور في المكان رائحة البخور النفاذة الطاردة للأرواح الشريرة التي تطلب هي استخدامها ، حتى تبدأ عملها في الرقية والنفخ والنفث عبر الاتصال الرقمي عن بُعد، فيخرج الجني الخبيث من الجسد الممسوس مذموماً مدحوراً!.وهكذا لم تعد الجغرافيا ولا المكان عائقاً ، فالرقية العابرة للبلدان -وربما البحار والمحيطات- قادرة على فك العمل ،وطرد الجن ، وفعل الأفاعيل !.ولنشكر العقول العبقرية «الكافرة « التي قرَّبت البعيد ، وأبدعت لنا وسائل التواصل ، وأوصلت الرقية « الافتراضية « لعقر بيوتنا، لتحل لنا كافة إشكالاتنا المستعصية بالوسائل الغيبية «التكنوسحرية « !.. وهكذا تغرق مجتمعاتنا في المزيد من تغييب العقول واستلابها ، بدلاً من أن تكون التقنية الحديثة وسيلة لتحريرنا ، ومنحنا الأدوات لإعمال العقل والتحليل ومَنْطَقة الأمور! وبدلاً من التفكير والتأمل في كيفية توصل العقل البشري لتخوم التقنية، والتمكن من تطويعها واستخدام أدواتها في طي المسافات وإزالة الحدود الجغرافية في التواصل ، تستخدم هذه الوسائل لتكريس العقل السحري والتجهيل وتعزيز الفكر الخرافي ! وتعطي هنا تنحية العنصر المادي المتمثل بأخذ الأجر على الرقية مزيداً من المصداقية ، وقدرة أكبر على تخدير العقول وقمع الأسئلة ، فالتطوع يمنح الرقية صك البراءة من التكسب والاستغلال المادي ، وإن كانت تستغل العقول وتخدِّرها عن واقعها والأسباب الموضوعية لمتاعبها، وهذا أبشع وأشد تأثيراً من استنزاف الأموال ! ولعلّ لسلطة الإيحاء والتأثير على الناس والتمكُّن من توجيه عقولهم ؛ سحراً يدير الرؤوس ويحقق النشوة أكثر مما يفعله تجميع الأموال وكَنزُها ! فهو يمنح من يقوم به وهْمَ العظمة والأهمية ،ويرضي ذاته المتضخمة بتعزيز شعورها بالقيمة ، فهي الملاذ والملجأ الذي يطرد السحر والجان ويشفي المُعتلِّين ويساعدهم ، وبذلك لا غنى للناس عن وجوده في حياتهم!. ليس غريباً أن تتم السيطرة على العامة بهذه الأساليب التي غالباً مايدخل فيها الاستغلال المادي واستنزاف الجيوب ، ولكن الكارثي أن يحدث ذلك في شريحة من المتعلمين وحملة الشهادات ، مما يؤكد أننا نحتاج في مدارسنا وجامعاتنا لتدريس فلسفة العلوم ، وتأسيس التفكير النقدي الذي يقوم على المساءلة والتحليل . يتحدث الدكتور مصطفى حجازي في جزء من كتابه ( التخلف الاجتماعي ) عن سطوة السحر والخرافة في المجتمعات النامية واستخدامها لقمع العقلية النقدية وإخراس الأسئلة ، وكيف تستعمل لتغييب الإنسان المقهور عن واقعه البائس ، ومحدودية خياراته في التحكم بمصيره وسير حياته ،.. ولعلّ ذلك يشرح لنا لماذا تتلبس العفاريت في مجتمعاتنا النساء أكثر من الرجال ، فهن الأقل حظاً من الخيارات والقدرة على التحكم في المصير ! [email protected]