أعتقد أن في كل واحد منّا اسمًا ثلاثيًا مضمرًا، غير الذي نتعامل به، ونعرّف به أنفسنا أمام الآخرين. أسماؤنا حقب وترسبات تحمل تاريخنا مثل الميراث الجيني الخفي الذي به خصائصنا العميقة. تتشكل في الاسم الثلاثي أشكالنا وأفراحنا وخيباتنا وفجائعنا أيضا. ستون سنة مضت من العمر وبعض السنوات. ستون سنة والكثير من الأسئلة المعلقة والأشواق المسروقة المتراوحة بين الفرح والخيبة. لكن كلها تصنع الذوات التي نتحرك من خلالها اليوم، ونواجه بها زمنًا قاسيًا ويتعامل الناس بها معنا، وهم لا يعرفون ما الذي يقودهم نحو فلان أو فلان، وما هو ذلك السّر الذي يصنع الصداقات والحب أيضا في سرية تكاد تكون بمثابة الدوار. الاسم الأول الذي رافق طفولتي هو لزعر الحمصي الذي يعني الأشقر بلون الحمص. طفل صغير. وجهه أبيض بعينين لوزيتين، وبؤبؤ تجمعت فيه كل ألوان الأجداد الآفلين الذين عبروا على أرضه ويصعب حصرهم، من نومديين ورومان ووندال ومسلمين عرب وغير عرب، وأتراك وفرنسيين، من وثنيين، ويهود، ومسيحيين، ومسلمين. على خده يرتسم الكثير من نمش الطفولة المتجمع بشكل مكثف على خديه اللذين يحمّران بسرعة كلما جرى، أو انتابه خجل طفولي. لم يتوقف لزعر الحمصي عن حب كل ما يلمسه، أو يراه، أو يشمّه، أو يحسّه. ما يزال إلى اليوم يلعب متخفيًا بظلال العمر، تحت خروبة الأجداد التي قاومت الزمن ولم تنحن. يستمتع بشجر اللوز كنحلة. كلما رأى نواره الزهري والبنفسجي ركض نحو مريم، وسحبها من يدها ويظلان ينظران من بين الفروع والألوان، حتى تخترق أشعة شمس الربيع عيونهما فتدمعان فرحا. كلما غفيا، ذكّر مريم بشتاء السنة التي مضت. قسوته الباردة لم تمنعهما من أن يركضا تحت المطر يومًا كاملا، وعندما عادا إلى بيتهما كانا يقطران ماء مثل إسفنجتين. وعندما يصحو، يخرج لزعر الحمصي ليلعب الكرة. تنتابه غيرة حارقة من الذي اشترى له والده كرة يلعب بها. يدفن أنفه الصغير في الوسائد القديمة التي تتجمع فيها كل الألبسة غير المستعملة. يستخرج الرثة جدًا، ويصنع منها كرة ثقيلة، ويشدّها بخيط الكتان. يلعب في فراغ الساحة وحيدًا، قبل أن يتجمّع بقية الأطفال، ويصبح اللعب ركضًا في كل الاتجاهات. لا تهمّ الأهداف ولا المرمى. في الفجر الأول ينفّذ وصية جدته. يقوم من فراشه ويخرج من البيت بألبسة ممزقة. يجتمع الثلاثة على جسده الهش: الظلمة والخوف ورجفة البرد والثلج. يركض نحو المدرسة القرآنية، يتعلم كلام الله، ولغة الأجداد الممنوعة رسميًا. وذات ليلة أصيب بدوار، فاستيقظ كبيرا قليلا. زاحمه سينو في الحياة. لم يطرده، لكنه لبسه، فغيّبه من المشهد. غفا لزعر الحمصي أخيرًا في كفّ الطفولة. كم كان سينو سعيدًا يوم أدرك أنه يمكنه أن يُحِب ويُحَب من ناس غير أمه، وجدته، وأخواته. وأن الهشاشة التي كبر فيها، صنعت سلطان غيّه وجنونه وحريته. أدرك في وقت مبكر أن النية الطيبة لا تكفي، وأن كرة الأرض ثقيلة. لكنه كلما حاول أن يكبر، قام لزعر الحمصي وسحبه بلطف من الوراء، فقط ليذكّره إن هو نسي، أنه ما يزال هنا، وأنه لم يمت، لحظة انسحب للنوم. سينو كان سعيدًا لأن الظلمة يقهرها بالطفل الذي فيه. ولو أن المدينة علّمت سينو كيف يكبر قليلا. وكشفت له عن سرّ الحيلة، والكذبة الملونة، والكتابة، ليستمر في الوجود. لكن، كلما تمادى سينو في ضياعه، شعر بظل سخي، يعرف بسرعة صاحبه من عينيه اللوزيتين، ومن عطر اللوز، وبقايا الخروب في أسنانه الناعمة كأسنان فأر، ومن ابتسامته التي لم تكبر أبدًا، فيتراجع. فجأة يتذكّر سينو طريق المسجد وشجر اللوز وأغاني المطر المعطرة بحقول البنفسج البري، وطعم ابتسامة أمه في سقف الفقر الألم. فقط، عندما فقد جدته حنّا فاطنة، وكتب عنها حروفًا مبهمة في كراسته المدرسية، أدرك فجأة أنه كان قد خطّ اسمه الثالث والأخير، واسيني، وأنه كبر بسرعة. وتلك قصة أخرى.