خارج الشرح الكيميائي البارد، الذي ينظر إلى الحب بوصفه معادلة من التفاعلات الكيميائية في المخ البشري، يظل الحب الحالة الطبيعية الأكثر تعقيدًا، ولا تستقيم أحيانًا إلا بحضور عنصرها التراجيدي المصاحب لها. يتعلق الأمر هنا بأدق التفاصيل الداخلية التي تشمل كل الحواس التي نعرف وندرك بها الوجود الذي يحيط بنا، والتي لا نعرف أيضًا، إذ ما يزال الإنسان شبكة من التعقيدات المدركة وغير المدركة. الغريب أن علم النفس عند فرويد تحديدًا، يؤكد أن المسافة بينه وبين الكراهية وربما حتى الضغينة أيضًا، تكاد لا تُرى، بحيث أن أكبر حب يمكن أن ينقلب بسرعة إلى كراهية أو حقد. الأمر طبيعي إلى حد ما، فنحن نكره من يعطل هذا الحب، من يسرق منا لحظاته التي نظن أنها ملك لنا وحدنا. نكره أيضًا ولو أخفينا ذلك، من نظنه أفضل منا، أو أجمل أو أكثر جاذبية، مما يجعل مكانتنا عند الآخر مهددة بخطر التخلي. أصعب هزيمة تصيب الإنسان في مقتل هي فعل التخلي. فهو يعني ببساطة أنك لم تعد تعني شيئا لإنسان تكون قد منحته ربما كل شيء ولم تترك لنفسك الشيء القليل لكي تتماسك وتقف به على رجليك. أكبر الضغائن أن نكره من كنا نحبه. أي أن نضعه في الدرك الأسفل بعد أن كان يحتل كل شيء فينا، فوضعناه في الصف الأسمى الذي يضاهي السمو والقداسة أحيانا. هل الحب أعمى إلى هذه الدرجة ولا يرى العلامات الأولى قبل حدوث الكارثة. ليس أعمى، لكن الأعمى هو العاشق الذي لا يسمع لأية حاسة فيه إلا حاسة الحب التي تضع الغمامة أمام عينيه وتلف قلبه لدرجة الموت بالتقسيط. لهذا تنتهي كبريات قصص الحب داخل الدم التراجيدي، وكأن المآل الأمثل للحب الكبير يكمن في نهايته، وليس في مساره وهزاته الجميلة لأن النهاية تغرق كل شيء فيها. ليلى ماتت عشقا في قيس، فمات على قبرها وهو في أقاصي حالات الجنون. روميو وجولييت ماتا في النهاية بسبب خطأ تراجيدي حسم حياة كبيرة من المعاناة. حيزية ماتت وكان على حبيبها سعيد أن يبحث عن لغة تخلدها وترجعها له كلما انتابته الآلام القاسية. في تريستان وإيزولده النهاية نفسها والتراجيدية عينها بعد انتهاء المحلول المؤثر فيهما. حتى الروايات العظيمة التي بقيت في الذاكرة الإنسانية الجمعية، انتهت بالطريقة الفجائعية نفسها. مدام بوفاري ماتت مسمومة بعد أن فقدت كل علاقة لها بالحياة وكأن الحب الذي كان فيها لم يكن إلا وهمًا عابرًا أغرقها في الكتب والروايات. وآنا كارنين ماتت منتحرة تحت عجلات القطار الحديدية الباردة، بعد أن تركت زوجها، وخذلها الرجل الذي ارتمت في أحضانه بكل الجنون الذي فيها. أجمل رواية عاشها الروائي الأمريكي المعروف سكوت فيتزجيرالد، لم تكن رواياته الناجحة مثل الوجه الآخر للجنة، أو كاتسبي الرائع، ناعم هو الليل وغيرها ولكن زوجته الروائية زيلدا سير، التي انتهت إلى الجنون في مستشفى الأمراض العقلية في آشفيل في كارولين الشمالية، ثم محروقة في نفس المستشفى قبل أن تتحول إلى إيقونة نسائية لاحقًا، بعد أن كانت حياتهما الغرامية نموذجية عند ما سُمّي بالجيل الضائع. كل هذه القصص الحياتية والروائية انتهت بالموت التراجيدي تحديدًا. لم نر قصة حب ناجحة انتهت في الفراش، بالموت الطبيعي أو ربما أن الذاكرة الجمعية لا تسجل إلا الحب الفجائعي معتبرة ذلك روحه وسلطان خلوده. في أغلب هذه القصص المتخيلة أو الحقيقية كان الحب بمعناه الأناني الصرف هو المحدد للمسارات وهو الجذر العميق للتراجيدية. الأنانية لا تقتل الحب فقط، لكنها تقتل الإنسان كقيمة متعالية لأنها ترجع كل شيء إلى الذات. إذا كان الحب سخيًّا، بل ومتسامحًا يضع أمامه القيمة الجوهرية للحب، سيستمر في عمق العواصف، وإذا كان ضعيفًا وأنانيًّا، سينتهي حتما في التراجيدية، الرفيق الثابت لأي حب كبير. لم يكن مفيستوفيليس في فاوست لغوته إلا الرسم الأمثل للأنانية وحب الذات، قبل أن تنقلب الأمور وتبدأ في حركتها نحو النهايات الفجائعية التي لولا الاستدراك في النهاية، لانتهى كل شيء إلى تراجيدية هنا أيضًا.