أحيانا يقول الإنسان ب"صمته" ما لا يتمكّن أن يقوله ب"كلامه"!! يقول الشاعر اللبناني المُبدع جورج جرداق في قصيدته الرائعة (هذه ليلتي) التي غنّتها كوكب الشرق السيدة أم كلثوم، في واحد من أحلى أبيات القصيدة: (قد أطال الوقوف حين دعاني/ ليلمّ الأشواق عن أجفاني/ فادنو منى وخذ إليك حناني/ ثم اغمض عينيك حتى تراني). ويقول أمير الشعراء أحمد شوقي في قصيدته (يا جارة الوادي) التي غنتها السيدة فيروز ولحنها الموسيقار محمد عبدالوهاب، في أحد أبيات القصيدة: (وتعطلت لغة الكلام وخاطبت عيني/ في لغة الهوى عيناك/ ومحوت كل لبانة من خاطري/ ونسيت كل تعاتب وتشاكي/ لا أمس من عمر الزمان ولا غد/ جمع الزمان فكان يوم لقاك). كما يقول شوقي في قصيدة أخرى غناها عبدالوهاب فأبدع: (جفنه علَّم الغزل/ ومن الحبِّ ما قتل). *** كان الصمت والإشارة؛ والعيون والجفون، هي وحدها إشارات مُجرّدة لم يُرافقها ما سرده الشاعر كامل الشناوي في أغنيته الشهيرة (لا تكذبي) -التي غنتها نجاة الصغيرة وعبدالحليم حافظ، كما غنّاها مُلحنها الموسيقار محمد عبدالوهاب- من تعبيرات تعدّت الصمت إلى مشاعر أخرى، حيث يستخدم الشاعر كل حواسه حين يقول: (بالهمس باللمس بالآهات، بالنظرات، باللفتات، بالصمت الرهيب). *** لقد اهتم علماء النفس بلغة الإشارة أو لغة الجسد، وتوصّلوا من خلال دراسات عدة إلى أن أكثر من 60% من الحديث بين البشر يتم بصورة غير مباشرة، عن طريق إشارات وإيماءات وإيحاءات دون كلام. فمن خلال الإشارة تستطيع أن تتعرف على سمات وملامح شخصية أي فرد دون أن يتكلم كلمة واحدة، حتى لو لم تكن تعرفه من قبل. فأنت تستطيع أن ترسل رسالة لشخص تتعامل معه، دون أن تتفوه بكلمة واحدة، فالصمت في أحيان كثيرة يتجاوز الكلام المباشر في التعبير وإيصال الرسائل المطلوبة. *** وهكذا وكما يطالب كثيرون بحرية الكلام، قد يرى آخرون أن حرية الصمت أهم وأجدى. وإذا كانت حرية الكلام من الحريات الأساسية، فكذلك ينبغي أن تكون حرية الصمت. فللصامتين الحق في المطالبة بأن لا يرفع المتحدثون أصواتهم فيؤذوا الآخرين.. وكان الفيلسوف الألماني شوبنهور يقول: قل لي ما هي قدرتك على الصمت أقل لك من أنت".. فحرية صوتك تنتهي عند "طبلة أذني". * نافذة صغيرة: (لم أشعر أن قلبي له دوي، وأنه ورشة تدق حديداً بحديد إلا عندما وقفت تحت تلسكوب أحد المراصد في أمريكا.. وكنت أنظر إلى السماء.. لقد كانت نظراتي صلوات وكانت أنفاسي ابتهالات.. وضايقني أن قلبي له صوت.. فأمام هذا الجلال يجب أن يسكت كل شيء!).. أنيس منصور. [email protected]