قال تعالى : " وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا " سورة الإسراء [11] بُعد النظر موهبة من الله تبارك وتعالى يخص بها الله عز و جل من رضي عنه وفضَّله , فأفضل ما يمكن أن يملكه الإنسان من صفات ومميزات صفة " بعد النظر " , إن تأنِّي الإنسان ورويته التي تكون مصحوبة بمنظار إيماني واسع شامل وقويم ؛ تمكنه من أن يرى الأمور من جميع جوانبها , وهذه الرؤية العميقة من شأنها أن تجعل الإنسان متزناً عاقلاً , فالعاقل دائماً متأنٍ وليس عجولاً , والجاهل تكمن في حشاشته كثرة التعجل والاندفاع والتهور , وإخراج الألفاظ التي يندم على التلفظ بها , والتي تجعل حكمه خطأ على كل موضوع يريد دراسته , فيحكم على شتى الأمور بالحماقة والتسرع ؛ وهذه صفات ذم يجعلها الإنسان لنفسه , .. وهناك مقولة لأحد الحكماء يقول فيها : " إن كل عجول أحمق مثله مثل الدجاجة لا تنظر إلا تحت رجليها " والإنسان العاقل بعيد النظر لا ينظر تحت قدميه بل ينظر عن بُعد , تراه لا يسمع الكلمات فحسب , لا يقرؤها فحسب ولا يأخذها على علَّتها فحسب ؛ بل يفكر فيما خلف الكلمات , ويفسر معانيها ومضمونها وما تحتويه , وما هو الهدف منها , ومَن هو قائلها , وأمور شتى تتعلق بما يصل إليه تفكيره , هكذا هم أصحاب الفكر والرَوَّية أصحاب الشيم العالية , وبعيد النظر يشخص الأمور بعقلانية , وأقول عقلانية بمعنى أنه يهضم الأمور بعقل ويدرسها دراسة شاملة من جميع جوانبها ويفسرها بالمنطق ؛ بمعنى أن تكون متَّفقة مع أصول التعامل المنطقي والعقول المدركة التي هي تبعد الضرر ولا تقربه . أما قاصرو النظر : فتراهم يعتقدون في الإنسان صاحب التفكير الثاقب بأنه معقَّد , ويتَّهمونه بالمبالغة والقلق مما سوف يحدث , وقد ينسبون إليه الكبرياء .. وهذا اتهام مردود عليهم ؛ لأنه إنسان ليس بالموسوس ولا الشكاك ولا المتردد , ويتحمل الكثير بسبب بُعد نظره ورجاحة فكره , فهو يصبر على مشكلته اليوم خشية أن تقع الطَّامة الكبرى غداً , فيحاول عدم إثارة مشكلة الغد فينجح في علاجها , وعندما تنظر إليه تجده رجلاً سوياً , مريحاً في التعامل , متفتحاً ذهنياً , كما أنه عندما يتعامل مع المشكلة يتعامل معها بهدوء , على العكس من قاصر النظر , فإنك تراه يعالج المسائل بحماقة السرعة , وقد لا تخلو من الأنانية , ومن غير تأنِ , كما تراه ضيِّق الفكر محدود التَّصور , طائش الآراء متسرعاً في أحكامه . وبعد النظر في جملته يعني التَّروِّي في الأمور , ولهذا اقتضت حكمة الله عز وجل أن يخلق السماوات والأرض في ستة أيام .. وهو القادر على خلقها بكلمة " كن " ..؛ ليعلمنا التأني والرفق في شؤوننا كلها . أليست هذه منَّة من الله عز وجل ؟ فلنتأنَّ ولتكن لنا عبرة بما هو آتٍ . وكذلك جاءت السنَّة النبوية الصحيحة فيَّاضة في هذا المعنى ؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم : " مَنْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنَ الرِّفْقُ فَقَدْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنْ الخير , وَمَنْ حُرِمَ حَظَّهُ مِنَ الرِّفْقِ فقد حُرِمَ حَظَّهُ من الخير " صحيح الجامع : [6055] ويقول صلى الله عليه وسلم : " مَا كَانَ الرِّفْقُ فِي شَيْءٍ إِلا زَانَهُ ، وَلا نُزِعَ مِنْ شَيْءٍ إِلا شَانَهُ " صحيح الجامع : [5654] إنَّ في العجلة الندامة وفي التَّأني السلامة , وكما قيل : قد يُدرك المتأنِّي بعضَ حاجتهِ وقد يكون مع المُسْتَعْجل الزَّلل وكم نرى مع المتهورين والحمقى أموراً يَندى لها الجبين , وللأسف فقد يكون هذا الأحمق المتهوِّر قائداً لأهله فيوصلهم إلى مهالك جمَّة وشتات مُهلك , تجعله يندم على أفعاله .. وعندها لا يفيد الندم . وأما عن أهواء الأنفس وغيِّها وحبّها للشهوات فللأسف قد تكون لك عادة سيئة وقد تتعود عليها , فهل تقلع ؟ تتعود عليها ؛ فالنفس دائماً لا تقتنع إلا بما تريد وإن كان فيه هلاكها .. وهناك حكمة قالها أبو نواس : لا تَرْجع الأنْفُس عن غيِّهَا مَا لَم يَكُنْ مِنْهَا زَاجِرٌ ولنعلم أنَّ : عقلك أسمى ما خلق فيك , إما أن يسمو بك أو يرديك