وإذا تأملت شخصية مدينة جدة مرة أخرى فإنك تجد حاراتها القديمة وقد أحاط بها العمران الجديد والأبراج العالية من أكثر جهاتها حتى أصبحت تلك الحواري القديمة وكأنها من بقايا الأمس قياسًا بما تعج به الشوارع الحديثة والعمارات الشاهقة الجديدة من نشاط تجاري وحركة لا تهدأ، بل إن مجتمع جدة الذي انطلق من حاراتها القديمة أصبح ضمن تشكيلة كبيرة شاركت في بناء مدينة جدة الحديثة من أبناء القرى والهجر والمراكز والمحافظات المحيطة بها أو القريبة منها أو التي تمتد حتى أقاصي الجنوب الغربي للمملكة، بل إن الفرص التجارية والوظيفية لجدة السوق الكبير بالمملكة جعلت صورة جدة وشخصيتها تكتسب ملامح المدينة التجارية ومظاهر التسوق ولغة المتسوقين وأساليب الحياة التي تعلي من شأن المصلحة والكسب الذي طغى على كثير من العلاقات الحميمية التي كانت سائدة في مجتمع جدة القديم في حاراتها الأولى وما تلاها من فترات قبل الانفجار العمراني والسكاني والوظيفي الذي لم تعد فيه الأسماء تفي بالمتطلبات، لنجد شارع فلسطين يتقاطع مع شارع الأندلس في رمزية يحكيها كتاب الرواية وهم ينظرون إلى العلم الأمريكي يرفرف على مبنى القنصلية الأمريكية في هذا التقاطع الذي يحكي نقطتين مهمتين أوغلت بهما جدة في طريقين لتأكيد الهوية عبرا داخل تاريخ العرب، وتبقى ندوب المتخلفين من الوافدين وكارثة سيول جدة في جبين الحسناء لم تخفها بعد عمليات المعالجة، أما الكورنيش الجميل حيث حرية الهواء والتقاء الماء بالسماء فهو واحد من معالمها المرتبطة بالفن والتشكيل والتي تمثل بعض مفردات التعريف بها مع القصائد التي تفيض بها قرائح الشعراء، والروايات والقصص والحكايات التي يبدعها الكتّاب، والأغاني التي يترنم بها كبار الفنانين رجالًا ونساء، لتبقى جدة ليست تشكيلاً بصريًا جميلاً فحسب بل إنها قبل ذلك وبعد ذلك كلمة ذات ايقاعات تتناسل عبر المراحل والأجيال ولم يعد يكفي للتعبير عنها أن نقول: كنا كدا، لأن هذه نقطة صغيرة في صفحة قديمة من كتاب لا تزال تجدّ سطوره الأقلام على مدى العصور والأعوام.