تظن الكاتبة العراقية عالية ممدوح أن الجوهر في كل كتابة أن تكون جيدة. وترى أن عليها واجباً واحداً لا غير، «أن أحاول هذا وبصورة صحيحة ومستديمة ومقدار ما استطيع». ليس مسموحاً أن ننتج كتباً رديئة أو مزيفة، تقول صاحبة «الولع»، فالكتابة، من وجهة نظرها، واحدة من المواجهات الشديدة أمام الوحدة، «لي أن أنادي على قارئ جديد وجدي، سري ومجهول الملامح ولا اعرفه من قبل». وفي الوقت نفسه تعتبر أن ليس من مسؤوليتها أن تقدم لهذا القارئ ما يريد ويشتهي فقط، «فالقارئ مستبد وفي كثير من الأحيان غير عادل أيضاً». تنفتح الكتابة الروائية لدى عالية ممدوح، التي تقيم في باريس، على منطقة ملتبسة وشائكة وعلى أسئلة لا تنتهي، منطقة تتقاطع فيها الأزمنة وتصطدم في فضائها الذوات المقموعة والقامعة، التي تتنقل من مكان إلى آخر. وفي الوقت نفسه تفتح هذه الكتابة الفريدة، سؤال الرواية على إمكانات جمالية وفنية بلا حدود، حتى أضحى مجموع رواياتها السبع (حصيلة أكثر من 35 سنة) لحظة مهمة ضمن لحظات الرواية العربية، كما تحولت إلى علامة أساسية في تناول الإشكالي والمسكوت عنه، في المجتمع العراقي والحياة العربية عموماً. روايات عالية ممدوح، التي جربت أنواعاً من المنفى والاغتراب وعاشت في أماكن مختلفة، تدفع إلى الحيرة والتساؤل، فهي حول الحب والعواطف والجسد والجنس، والعلاقات المثلية، والسياسية والقمع والنفي والقهر والتسلط، غير أنها لم تتحول إلى كاتبة «بست سيلر». بقيت تحتفظ بالمسافة الضرورية واللازمة، التي تحول بينها وبين التحول إلى كاتبة شائعة ومنتشرة، ذلك الانتشار الذي لا يلبث أن يحترق تدريجاً ويتلاشى مع مرور الوقت. لا شك في أن رواياتها مقروءة وعرفت الترجمة إلى أكثر من لغة، وتلقى اهتماماً نقدياً جيداً، بيد أنها ظلت عصية على القراءة العابرة والسريعة، ولا تتيح أسرارها ومكنوناتها في سهولة. عالية ممدوح ليست كاتبة جريئة، على النحو الذي يمكن أن يوصف به عدد ليس هيناً من الكاتبات العربيات، إذ لا معنى هنا للجرأة من دون اشتغال حقيقي على بنية الرواية وتصعيد جمالياتها. تكتب عالية بكل حواسها، فهناك الروائح، التي يمكن أن تُشم خلال القراءة، وهناك الأشياء التي تتيح إمكان لمسها ورؤيتها بين السطور، وهناك الأصوات التي يخيل لنا أحياناً أننا نسمعها. في روايتها «الولع» يدلنا إدوار الخراط إلى مقدرة لا شك فيها «على الغوص في دقائق اهتزازات النفس وارتجاجاتها وتذبذب الفكر بين شتى الاحتمالات والبدائل مع ارتباط موجز على طول الرواية بالأوضاع السياسية والاجتماعية الراهنة». وفي «غرام براغماتي»، روايتها الجديدة، لا تتشكل مباهج السرد من حبكة تضع بداية ونهاية لحادثة معينة، مثلما تخبرنا فاطمة المحسن، «إنها في أحسن اعتباراتها، فتنة التناسل واللعب على الكلام، النبش في المناطق الخبيئة للعواطف والأهواء، والتلذذ بالروائح والمذاقات. وتعتمد عالية ممدوح في رواياتها، على رسم المشهد العيني، وفق فريال غزول، «الذي ينم بتفاصيله عن الصورة الأوسع للوضع العام، كما يلوح بنقد متضمن للحالة. إنها روائية المشهد بامتياز، اذ تتراجع الحبكة في أعمالها». أما «المحبوبات» فتبدو «بمحكياتها وشخوصها ولغتها الدقيقة المتدفقة أشبه بمقطوعة موسيقية متعددة النغمات والمقامات والأصوات»، وفقاً لمحمد برادة، «لكنها تتضافر لتعزف لحن الصداقة الجميل، وتسترجع لحظات من حيوات أصبح المهجر مأواها، والعالم المفتوح على الاحتمالات أفقاً لها». تعري عالية ممدوح، التي غادرت العراق باكراً بمحض إرادتها، هرباً من زوج بات مستبداً، ومن بلد يفتقر إلى الحريات، تسلط الرجل وتدين القهر الذي يمارسه، لكن ليس من منطلق «نسوي»، فهي وعلى رغم أنها تعيش في باريس، لم تجد نفسها في النظريات الأميركية والفرنسية حول تحرير المرأة، هذه النظريات، كما تشرح، غالباً ما تنزلق بعيداً في الاعتبارات المتطرفة، بيد أنها تؤمن بأن رواياتها تتناول «حالات ملموسة من الفقر والإذلال والقمع، يرزح تحت نيرها نساء ورجال على حد سواء». لذلك لا غرابة حين تعترف بأن الكتابة، بالنسبة إليها، إعادة لترميم الروح والذات المخربة. ثمة عزلة وقهر ونفي تعيشه الحيوات في رواياتها، شخصيات مستباحة، وتمثل موضوعاً دائماً للهتك والاختراق بالغ العنف والقسوة. ففي «التشهي» لا تكتفي بتصفية الحساب مع العنف (الذكري)، كما يخلص عيسى معلوف، «بل تذهب أبعد من ذلك إذ تعمل على تعرية تلك الذهنيّة الذكورية المستبدّة التي طبعت أجيالاً متعاقبة وحكمت عليها إما بأن تكون جزءاً منها، وإما بالمنافي والموت». تنتج عالية ممدوح، التي تتموضع، وفق وكالة «فرانس برس»، «في مكان ما بين شهرزاد وفيرجينيا وولف، بين الحكائية التقليدية وتيار الوعي»، كتابة قاسية وأليمة، غير أنها كتابة تتمتع بنضارة فائقة، تجعل من الرواية لديها فضاء للتأمل والاستمتاع. كأنما الكتابة عندها لا تستوي من دون ألم وفقدان وحسرة، ويجد كل ذلك تعبيراته في سرد مركب، ولغة مضفورة بالمعارف والعواطف والمشاعر المحمومة. ترجمت أخيراً روايتها «الغلامة» إلى اللغة الفرنسية في دار «أكت سود». وقبل الترجمة عاشت هذه الرواية نوعاً من التجاهل وطاولها المنع في عدد من البلدان العربية، على رغم تميزها وقوتها، فهي رواية «كتبتها امرأة بمنطق كتابة المرأة الجديدة التي تحرص على كتابة اختلافها داخل النص، فكرياً وفنياً على السواء»، كما يقول صبري حافظ، «واستطاعت أن تخلق بنية سردية توشك أن تكون هي قضيتها الأساسية التي تطرحها على قارئها». تحكي «الغلامة» قصة حب تفضي إلى الموت. وتدور الأحداث فيها على خلفية انقلاب شباط (فبراير) 1963. كما يمكن قراءة الرواية بصفتها شهادة، عما حصل من فظائع أثناء تلك الفترة الدامية. تتذكر عالية ممدوح أنها حين أعادت قراءة «الغلامة» اعتراها الذهول لهول ما ترويه من عنف وبطش، «لم أكن أعلم أنني كنت أحمل في ذاتي تلك القسوة كلها!». أسألها عما تعنيه لها ترجمة هذه الرواية، الملعونة عربياً، إلى اللغة الفرنسية، وكيف ترى واقع الترجمة عموماً إلى اللغات الأخرى؟ فتجيب قائلة: قبل سنوات كان الكتاب المترجم إلى لغة أجنبية يموت ومن دون المرور بحالة الاحتضار الطويلة أو القصيرة الأجل. أظن اليوم، يدخل الكتاب غرف العناية المركزة في بعض الأحيان. لاحظت هذا بعد ترجمة «الغلامة» للفرنسية بالذات. إن المسؤولة الصحافية في دار «أكت سود» شديدة الحيوية وذات عزيمة ومثابرة ومع كل وسائل الإعلام، وحين ترسل إلي المقالات والتعليقات والأخبار عن الكتاب، تتضاعف دهشتي وأسعدْ بالطبع لما كتب في الصحافة والمجلات المتخصصة». ومع ذلك تعتقد صاحبة «هوامش إلى السيدة ب» أن القارئ الغربي لا يزال يقرأ الأعمال العربية بشيء من البرودة والاختزال، «ربما لأنه يتوقع الهذيان «الاكزوتيكي» أو إطلاق الاستيهامات التي تزخر بها هذه البقاع الساخنة من العالم». وتكشف أنه «لولا جهود المستشار والمثقف الجميل فاروق مردم بك لما صدرت هذه العناوين في الرواية العربية المعاصرة عن دار «أكت سود»، بجانب دور مرموقة مثل غاليمار وسوي وغيرهما». ما يترجم إلى اللغة الفرنسية من روايات عربية، شحيح جداً في رأيها، «إذا علمنا أن السعودية فقط تصدر 200 رواية، على سبيل المثال بصرف النظر عن هبوط وارتفاع مستوى تلك الأعمال فنياً، وأيضاً في العراق والأردن وشمال أفريقيا والخليج العربي... إلخ». كلما تقدمت عالية ممدوح في السن وتضاعفت ترجمات كتبها، «تكون ذخيرتي من الأوهام صفراً». وتعتبره أمراً لطيفاً جداً ومثمراً، أن تكون لها كتب مترجمة، «ولكن هذا أيضاً سيغدو حادثة عرضية بعد فترة قصيرة». أقول لها: تكتبين عن القهر والتسلط وأيضاً عن الحب والعلاقات العاطفية والمثلية الجنسية، لكنك لست كاتبة «بست سيلر»، وغير مكرسة إعلامياً، على العكس من كتاب وكاتبات يمارسون، على طريقتهم، التعاطي مع مثل هذه المواضيع، فهل يعود السبب إلى أن رواياتك لا تتيح قراءتها في سهولة، أم لأن الغرام لديك لا يأتي إلا مقروناً بالوجع والخسران؟ فترد أنها عندما تقرأ «ومن دون تدليس أو أكاذيب ومبالغات كما يحصل عندنا، أن رواية «اسم الوردة» باعت 40 مليون نسخة فأشعر بفخر عارم أن يحصل هذا في الجانب الأقرب الينا من المتوسط، وأن هذه الرواية عسيرة جداً وهي تتحدث عن الكنيسة ورجال الدين، وليس عن الشغف والانخطاف مثلاً في عمل له نسب من الوالدين الاثنين؛ الكنيسة والقارئ سوياً». تبدو أسماء الكتّاب المهمين في الوطن العربي، بالنسبة إلى صاحبة «ليلى والذئب»، وكأنها مجهولة الأم أو الأب، «لدينا رهاب وفوبيا من القراءة والثقافة، من البرامج الثقافية في التلفزيونات المخيفة التي تتناسل في كل ساعة، لكي تعلن وتنتج الجهل والتزمت وبغض الحياة والمعرفة». واقعياً، تقول صاحبة «حبات النفتالين» لا أحد يخبرنا كم طبع من كتبنا، وكأن هذه الفقرة تعادل السر المقدس، «قبل فترة وصلتني استمارة وبها أسئلة وتفاصيل وجداول وخانات عليّ تعبئتها وكتابة العنوان؛ من هي أفضل كاتبة عربية؟ ثم يسأل: كم طبعة طبعت كتبك؟ وكم نسخة تبيعين... إلخ. تصورت أن فعل التفضيل: أفضل، أقوى، أعظم، إننا داخل حلبة للمصارعة أو الملاكمة وأن هذا اللقب هو قصة حياة أو موت». لذلك فهي تدعو إلى التحلي بالتواضع الجم، في ما يخص جميع شؤون الطبع والنشر، «فالكاتب فعلياً لا يعلم، أو على الأقل أنا لا أعرف، ويوم ألححت على معرفة الرقم كانت الطبعة الثالثة تباع في المكتبات». لم تُقرأ رواية «الغلامة»، التي تصفها أوليفيا مارسو، ب «القنبلة الأدبية»، إذ إنها «تُلهب النار في الصفحات»، بحماسة كبيرة، تعترف عالية ممدوح، وعلى رغم أنها غير معنية بالقراءة الجماهيرية، فإنها تعزو سبب عدم قراءة هذه الرواية في شكل واسع، إلى طريقتها الجوانية في التدوين، «فبقدر ما أنا متطلبة من الكتابة لديّ ولدى غيري كقارئة مستديمة، فأنا لم أطلب يوماً أن أكون كاتبة جماهيرية. القراءة ذات الحماسة الشديدة، هي قراءات تظهر وتختفي بالساعة والدقيقة، وهو أمر يدعو صاحبه أو صاحبته أن تخلد للراحة، وهناك من يستهوي هذا النوع من القراءات». الحب الغريب الذي يربط بين شخصيتي روايتها «غرام براغماتي»، ويمثل كل منهما نصفاً عراقياً، إنهما نصفان مغرمان ومقتلعان عن بلديهما، هذا النوع من الحب «هو الذي يواجهني اليوم» تقول عالية ممدوح، وتلفت إلى أن هذا الحب سيسود في السنين الآتية، في بلدان تحتدم بالسفاهات. «المغرمان ينهزمان وبأقصى سرعة، حتى من دون أن يقاوما»، تحاول ممدوح تفسير تلك العلاقة الملتبسة ومآلاتها، «ربما لأنهما لا يشعران برسوخ الجذور في تبدد أو تصدع أحوالهما، وهذا يدعهما يرتكبان الأخطاء بسبب حب، ربما، لا طائل منه». تذكر عالية ممدوح، التي تشعر أنها ولدت منفية، إذ طالما عاشت ذلك الإحساس بعدم الانتماء، أن البعض يتعالى على الحب وكأنه مرض عصبي، هذا الحب الذي يتسرب «من بين أيدينا في العيش اليومي وفي التأليف فقد نال ضربات قاضية من المتشددين والمتزمتين». وتؤكد أن الحب سيظل القضية المركزية الأولى والكبرى لدى الكائن البشري، كما هي الحرية، «فهو نوع من التحريات المستترة والظاهرة عما كان يحصل في الحنايا الحميمية، وقبل أن يجدا راوية وبحر خطوطاً عدة للفرار خارج العلاقة وربما خارج النص أيضاً». وتضيف أن البعض استلطف هذا الانكشاف والمراوحة ما بين الذهاب والإياب، بين الإقدام والتراجع، «على الخصوص النساء وبعض الأصحاب من الرجال». لا تخلو «غرام براغماتي» من إشارات إلى التقدم في السن وإلى تحولات تطرأ على الجسد، فأسألها: هل تخشين من الشيخوخة، بخاصة وأنت تعيشين وحيدة؟ فتجيب قائلة: تتساءل راوية في «غرام براغماتي»: «إن باريس تدعك مسروراً إذا ما كنت تمتلك المال والصحة والشباب، والثلاثة ليست في حوزتي. لكن من جانب آخر هذه المدينة تسمح لك بتخصيب معارفك صبواتك». وتتطرق في الحديث حول تجربتها، إلى أنها وخلال عيشها، مرت بكل أطوار سنّها الذي كان يتقدمها، بيد أنها لا تدعه يعصف بها بصورة تراجيدية، «مرحلة الأفول ليست قبحاً وعجزاً فقط، هي أيضاً محاولة لفك بعض الألغاز في مجاهل الروح لديك ولدى شريكك، هي نوع من عودة الاستلطاف للتلميحات التي كنت لا تعبأ بها من قبل كنوع من مكرك السخيف». تقول أيضاً: «إنني أقوم بالمراقبة لمن حولي، ولنفسي، لحفيديَ اللطيفين، للمزاج اليقظ، ولم اعد أنتظر أو أتوقع أي شيء من أي مخلوق، وأولهم نفسي».