حتى الأفكار البالغة الشطح والخطأ والانحراف، تفيد في تقوية الحق وشده إلى بعضه ليكون كالبنيان المرصوص، كما تشد الحروب المؤمنين بعضهم إلى بعض؛ ليكونوا صفًا واحدًا أمام العدو، فلا موجب للضجر من وجودها وظهورها، وهناك لسان يرد وينقض بالحجة والبيان، يهدي به الله أصحابه، فينتفعون ويؤمنون، ولو أنهم لم يُسمِعوا لم يَسمَعوا، فلم يعرفوا الحق أين يكون، وما دليل صحته وثبوته وعلوه على الباطل؟. مهما بدت الحوادث والقضايا لدينا مصيرية، محسومة الأحكام والنتائج ابتداء، فاتخذنا موقفًا ورأيًا فخالفنا فيه آخرون، فلا ينبغي لنا أن نبادر إلى تضليلهم أو تبديعهم أو تخوينهم. فما أدرانا، فكم من مواقف حسمت باكرًا، فكان فيها الزلل والخلل وعدم إصابة الحق، ولم يدرك ذلك أحد إلا بعد أمد من الزمان. ويتأكد هذا التوجيه إذا كان المخالف عالمًا يصدر في رأيه عن نصوص وأدلة، وليس عن هوى، وكم رأينا أناسًا لا يحفظون لعالم مكانه ولا لداعية وطالب علم قدرهم، فيقعون فيهم بالكلام القبيح، ويستبيحون أعراضهم بما لا يجرؤ عليه إلا جريء على باطل، لا متدين ينبغي أن يتحوط من الكلام في أعراض الناس، ولو بدا له أن ذلك من داعي الغيرة على الدين، فالدين لا يبيح الخوض في الأعراض مهما كان، ويمنع من التفتيش عما في القلوب، ويأمر بتقديم حسن الظن. يستطيع المرء بعد مراقبة ونظر متأنٍ، أن يدرك سبب انحطاطنا في أمور دنيانا وديننا، كذلك أننا لا نعرف لغيرنا حقًا حين يختلف معنا، ولا نلتمس له عذرًا ولو إلى سبعين، كما أوصانا بذلك السلف، وحالنا بذلك أقرب إلى حال من يطلب الزلات، ثم ننزل أفعالنا وأقوالنا منزلة الدين، فنغري به أنفسنا، نظن بذلك الثواب من عند الله تعالى. فإذا كانت هذه طريقتنا، فهو مدمر لكل بناء، مفسد لكل رباط، فكيف لأمة أن ترتقي، وأبناؤها لا يطيقون خلافًا، ولا يقبلون عذرًا، ويفتشون عما في الضمائر، وسوء الظن مقدم عندهم على حسنه، مشتغلون بالتنابز والتنافر والكيد بدعوى الخلاف؟!. لا ترتقي الأمة حتى يشيع بينها الاتفاق والمحبة والإعذار والإصلاح؛ لأنهم بذلك يعين بعضهم بعضًا، ويدفع الآخر الأول إلى الأمام، ويمد هذا يده إلى الذي خلفه ليلحق به، فإما محسن فيزيد إحسانًا، أو مسيء فيقف على إساءته ويدرك موضع الزلل في خطواته، فيستدرك أمره وعمله بالإحسان. فالخطأ من الإنسان لا يسوغ التثبيط والتحبيط والتقنيط والتيئيس، ف: (كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون). فالأولى قدر واقع لا محيص منه: (لو لم تذنبوا لأتى الله بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر الله لهم)، والثانية شرع لازم يعان عليه بالتكاتف والمصابرة والإرشاد، لا بضدٍ يزيد في الداء ويرسخ البلاء، وقد قال صلى الله عليه وسلم في هذا: (لا تكونوا عونًا للشيطان على أخيكم). فهذا فيمن أخطأ الخطأ الصريح، يوصى بالرفق به والإحسان إليه وعدم المبالغة في زجره أو هجره، فالذي يخطئ عن اجتهاد، أو الذي يجتهد وهو في نظر بعض مصيب، وعند آخرين هو مخطئ، أولى بالرعاية والصلة والبر، فهذه مفاهيم رئيسة في ديننا، لا ينبغي أن ننساها، وقد نسيناها وفرطنا فيها وضيعناها، وكنا أولى الناس بصونها، قال الله: (منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين * من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا كل حزب بما لديهم فرحون).