عُرف العرب منذ قديم التاريخ بأخلاقهم التي أقرّ الإسلام الحسن منها. وهذّب بعضها. ونهى وحرّم وحارب بعضها السيئ. والغيرة، من الأخلاق التي حرص الإسلام عليها مع تهذيبها وتعديل مسارها.. كي لا تعود للانحراف بين إفراط وتفريط أو تقصير ومغالاة. وقلةُ الغيرة من قلة الإيمان؛ لأن المؤمن يغار، يغار لنفسه؛ ولحرمات ربّه. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله يغار، وإن المؤمن يَغار، وغيرة الله أن يأتيَ المؤمنُ ما حرم عليه". لكن للغيرة ميزان، به تستقيم، وبالحياد عنه تنحرف. وفي ذلك ما ذكره النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "من الغيرة ما يحب الله، ومنها ما يبغض الله، فأما التي يحبها الله عز وجل فالغيرة في الريبة، وأما التي يبغضها الله فالغيرة في غير ريبة". وأكّد النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه أغير من غيرة المؤمن، وأن المؤمن يغار، والله يحب الغيرة، وذلك في الريبة، ومن لا يغار فهو ديُّوث. وقد جاء في الحديث: "لا يدخل الجنة ديوث". فالغيرة المحبوبة هي ما وافقت غيرة الله تعالى؛ وهذه الغيرة هي أن تنتهك محارم الله، وأما الغيرة في غير ريبة، فهي الغيرة في أمر مباح لا ريبة فيه، وهذا مما لا يحبه الله. والناس في الغيرة أقسام وأنواع، منهم من لا يغار على حرمات الله -والعياذ بالله- وهذا هو الديُّوث، الذي استحق الوعيد. ومنهم من يبيحون على هواهم. وهم الذين لا يُحرِّمون ما حرَّم الله ورسوله، فيبتدعون أموراً على هواهم ويجعلونها منهجا ودينا. ونوع ثالث يغار على ما حرّمه الله، وعلى ما أمر، بحسب ما يُحب ويكره. فيكره أموراً يحبها الله ورسوله. فيتخبّط ويُضلل غيره بحسب هواه. ونوع رابع يناقض نفسه، فيغار على أوامر الله دون ما حرم. فنراه لا يبغض الفواحش، ويظهر غيرته على الصلوات ولكنه لا يُطبّقها ولا يُعطيها حقها. فهو متشدّق مغرور. أما أهل الإيمان فهم من يكرهون ما يكره الله، ويغارون على ما يكره. ويحبون ما يحبه الله، وتنقص الغيرة بقدر نقص التقوى وزيادة المعاصي. وتزداد بالتقوى. قال العلامة ابن القيم -رحمه الله تعالى-: "ومن عقوبات الذنوب أنها تطفئ من القلب نار الغيرة، التي هي لحياته وصلاحه كالحرارة الغريزيّة لحياة جميع البدن". والناس في تطبيق غيرتهم أنواع أيضا. فمنهم من تشتد غيرته فتحمله على سرعة إيقاع العقوبة من غير إعذار، ومن غير قبول العذر ممن اعتذر. ومنهم من يقبل المعاذير، دون إسراف. ومنهم من يُسرف في قبول الأعذار. والممدوح اقتران الغيرة بالعذر؛ فيغار في محل الغيرة، ويعذر في موضع العذر، لكننا نجد اليوم خللاً عظيماً في مسألة الغيرة والتعبير عنها.. ونحتاج أن نكون أكثر وعيا كي لا نضل أو نُضل. [email protected]