يعرفها العلماء بأنها ثوران النفس بسبب التنافس، وهي من الأمور التي تختلف فيها النفوس البشرية اختلافاً كبيراً، إنها الغيرة... فمن الناس من يغار لله ولرسوله ولمحارمه وعرضه، ومنهم من يغار لنفسه وأهوائه وشهواته الدنيوية، ومن هنا نتساءل: هل الغيرة خلق محمود أم مذموم؟ في الحقيقة الغيرة قد تكون محمودة مرغوبة، وقد تكون مذمومة أشد الذم! وذلك عندما تصبح مرضا من أمراض القلوب، وآفة خطيرة من آفات النفوس التي تفتك بالمجتمع ومؤسساته... نعوذ بالله تعالى منها ومن سائر الآفات والأسقام. ومن الغيرة المحمودة التي يحبها الله ورسوله: الغيرة على محارم الله، وغيرة المسلم على أهله ومحارمه؛ فيغضب إذا انتُهِكت المحارم، واقتُرِفت الذنوب والآثام وتُعدِّيت الحدود، وهذه الغيرة الإيجابية المطلوبة المرغوبة؛ لأنها في هذا الصدد خلق حميد، وخلة حسنة، بل هي صفة من صفات عباد الرحمن الصالحين؛ لأنها آنذاك سياج منيع لحماية المجتمع من التردي في مهاوي الرذيلة والفساد، والواقع أن الغيرة على دين الله تعالى وحرماته قوة روحية عظيمة تحمي المحارم والشرف والعفاف من كل مجرم وغادر، ومؤشر على قوة الإيمان ورسوخه في القلب. ومن الغيرة المحمودة التي تدخل في هذا الإطار الغيرة على الوطن ومواطنيه وحكامه ومكتسباته من الخونة والحاقدين والمتآمرين الذين غمرهم هذا الوطن بخيراته فأكلوا ويأكلون بكلتا يديهما، ومع ذلك فهم أبدا ناقمون... أبدا لا يرضون... أبدا لا يشكرون...!! وحينما نغار على وطننا فإن هذا ولا شك يعد من الغيرة المحمودة فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تعالى يغار، وإن المؤمن يغار، وغيرة الله أن لا يأتي المؤمن ما حرم الله» (متفق عليه) هذه هي الغيرة المحمودة التي قال عنها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: «الغيرة المحبوبة هي ما وافقت غيرة الله تعالى، وهذه الغيرة هي أن تنتهك محارم الله، وهي أن تؤتى الفواحش الباطنة والظاهرة» ( كتاب الاستقامة 2/ 7).لكن هناك غيرة مذمومة، وهي تعتبر من الآفات الخطيرة التي يكون سببها التنافس والتحاسد بين الناس بسبب الدنيا وحطامها الزائل، أو تكون لأغراض شخصية وأمور دنيوية، كالتنافس بين أهل النعم المختلفة وأصحاب الحرف والمهن، فالنفس البشرية في الواقع عالم غريب، وسر عجيب، حيث تتفاوت النفوس تفاوتاً عجيباً وتختلف اختلافاً كبيراً، منها ما هو في الثرى، ومنها ما هو في الثريا، فهناك نفوس زاكية مطمئنة، بينما هناك أيضا نفوس أمارة مضمحلة، ولله در ابن القيم رحمه الله تعالى حيث قال: « في النفس: كبر إبليس، وحسد قابيل، وعتو عاد، وطغيان ثمود، وجرأة نمرود، واستطالة فرعون، وبغى قارون، ووقاحّة (أي لؤم) هامان، وهوى بلعام (عرّاف أرسله ملك ليلعن بني إسرائيل فبارك ولم يلعن) وحِيَل أصحاب السبت، وجهل أبي جهل، وفيها من أخلاق البهائم: حرص الغراب، وشره الكلب، ورعونة الطاووس، ودناءة الجُعْل، وعقوق الضب، وحقد الجمل، ووثوب الفهد، وصولة الأسد، وفسق الفأرة، وخبث الحية، وعبث القرد، وجمع النملة، ومكر الثعلب، وخفة الفراش، ونوم الضبع، غير إن الرياضة والمجاهدة تذهب ذلك...» (الفوائد لابن القيم 1/ 76). إن آفة الغيرة عندما تستشري وتتمكن من صاحبها تزيد من وطأة وحِدَّةِ الصفات السلبية في نفسه وتملؤها كِبْراً وغروراً وتعالياً على الآخرين، وتشحنها بكل صنوف الغلِّ والكراهية والحقد، وتدفعه إلى ارتكاب كل الرذائل والموبقات بدءا من الشرك والكفر والعياذ بالله، فهذا هو إبليس اللعين غار من آدم عليه السلام وأخذه الكبرُ والعُجْبُ بالنفس فعصى أمر الله تعالى ورفض السجود له كما أمر الله، قال تعالى: «فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ * قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ * قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ * قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ»[ص:73- 78] ومع علمنا بتحذير الله تعالى لنا من الغيرة السلبية، ورغم ما نعرفه من مساوئها وأضرارها الفادحة على الفرد والمجتمع، إلا أننا بكل أسف نلمسها بوضوح شديد في جميع وزاراتنا ومؤسساتنا وأنديتنا المختلفة، بل في منازلنا بين أبناء الرجل الواحد...!!! وقد تكون بعض دوافع الغيرة لدى النساء والأطفال الصغار مفهومة ومعلوم أسبابها، وقد أشار الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك حين قال:» غارت أمكم...»لكن الغريب والمحيِّر حقا أن نجد هذه الآفة الخطيرة مستشرية على نطاق واسع بين قطاعات كبيرة وشرائح عريضة من الناس - رجال ونساء - في جميع المؤسسات وأماكن العمل (وللأسف نراها بوضوح تام في أوساط من يحملون الشهادات العليا بصفة خاصة...!!!). وكثير من المصابين بهذه الآفة النفسية الخطيرة يحرقون أنفسهم حسدا وحقدا وغِلًّا ويفسدون حياتهم وحياة المحيطين بهم، بل يجنون على مجتمعاتهم ومصالح الوطن ومكتسباته، فتجد أحدهم يتولى أمراً من أمور الدنيا في إحدى مصالح هذا الوطن المعطاء فتحمله الغيرةُ على الفتك بالآخرين وتمزيق وحدة مؤسستهم التي يعول عليها في الإصلاح وتزداد فداحة الخسارة وخطورة عواقب الغيرة إذا كان بيد الشخص صلاحيات واسعة فتدفعه غيرته العمياء ورعونتُه الهوجاء إلى التخلص من بعض زملائه ولربما كان أحدهم أفضل منه علما وأكثر منه خبرة !! ولعمري فإن هذه الآفة الخطيرة تحتاج إلى علاج سريع، صحيح أن النفس البشرية ترغب في التفوق والتميز وهذا لا ضير فيه ولا غبار عليه إطلاقا، لكن ما نعترض عليه أن تستشري الغيرة بين الناس لدرجة أن تفسد بيئات العمل وتلوثها، وتملؤها بالغيبة والنميمة والتحاسد والتباغض، بل أحيانا تدفع الغيرة صاحبها الذي يتمتع بمنصب ما أن يخصص بعض الموظفين للعمل لمصلحته وقد يأمرهم بالتجسس على الآخرين ورصد أخبارهم وجلبها إليه...!! وفي مثل هذه الأجواء الملوثة والبيئات النفسية العفنة تستغل هذه الآفة الخطيرة حيث تختلق الأخبار وترُوج الشائعات الكاذبة، وتهدر أوقات العمل، لتصفية الحسابات وتضيع طاقات القوى البشرية في القيل والقال، وتوغر الصدور وتنفث سموم الكراهية والبغضاء بين أبناء المؤسسة الواحدة وتستثار الأنفس، وتعم البلوى وتسود الضغائن بين الجميع!! وهذا كله خلل خطير في البنية النفسية والمجتمعية، ولذا تجب مواجهته بكل قوة وحسم والوقوف أمامه بكل حزم؛ ليبقى لمؤسساتنا ودواويننا وجامعاتنا بهاؤها وصفاؤها ونقاء الأجواء فيها، ولتكرس كل الجهود والطاقات للتنمية الشاملة المستدامة. وما أجمل أن نعمل جميعا بمبدأ (نعمل جميعا لنكسب وننجح معا) فهذا المبدأ إن فعَّلناه بصورة عملية وكان ملموسا في واقعنا بشكل كبير فستتضاءل فرص انتشار الغيرة، وستحاصر كل السلبيات التي تنجم عنها؛ وبذلك نوفر البيئة الصالحة النقية والمناخ الملائم للإبداع الفردي والجماعي، ونطلق طاقات الجميع لبناء نهضة حقيقية تصنع بفضل الله تعالى لنا ولأبناء أمتنا مكانا لائقا ومشرفا في المستقبل الذي لن يُعتَرَف فيه سوى بالأقوياء المبدعين المنتجين!! أما هؤلاء الخاملون الكسالى المتحاسدون المتباغضون فسيتركون الغيرة وغيرها من الآفات النفسية والأمراض القلبية تنهشهم وتأتي عليهم وعلى بنيانهم، نعوذ بالله من الخذلان وسوء العاقبة. ومن الجميل وليس غريباً أن ولاة أمرنا حفظهم الله تعالى والقائمين على وزاراتنا من أصحاب المعالي الوزراء ونوابهم حريصون على رصد أمثال هؤلاء الأفاكين، حيث يقومون باستئصالهم وتطهير مجتمعاتنا ومؤسساتنا الحكومية منهم، فنسأل الله تعالى لهم التوفيق والسداد والعون، وأن يطهر وزاراتنا وشركاتنا ومدارسنا وجامعاتنا وسائر مؤسسات بلادنا من هؤلاء الحسَّاد والأفاكين الفاسدين المفسدين الأكَّالين للحقوق، الذين لا يبالون إلا بأنفسهم ومصالحهم فقط... وإلى الله المشتكى والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون!