قم وانفُض عنها ترابًا غمرها، واجلُ عن محيَّاها سوادًا كدَّرها، ارفع في قلبك مقامها، وأحسِن بيدك إكرامها، فهي أينما حلَّت بسمةٌ لطيفةٌ، وشعورٌ رقيق، ودمعةٌ قريبة وحنانٌ طاغٍ، ولا غرو، فهي تفاحة القلب وريحانة الروح. لم يعش طعم الأبوة والأمومة بالحب والرحمة كأعمق ما تكون؛ من لم يرزق ببنت، يرعاها ويراعيها، ويلطف بها ومعها، ويأنس إليها ومنها، فيغسل عنه بذلك درن الجاهلية وجفاء الظلمات، ويتأدب بأخلاق الإسلام وسامي السجايا. ورغم كل هذا الجمال الذي تنشره البسمات الوردية، إلا أن ثمة بعض الأفكار الجاهلية التي لا تزال تعشش وتعيش في العقل العربي، فإذا جاءته البشارة رقيقة أنيقة بالأنثى، اسودَّ وجهه وعبست قسماته، حتى إذا ما ردَّه دينُه عن أن يدسَّ تلك البسمة في التراب، رضي بنصف الجاهلية الآخر، فأمسكها بهونٍ وهوانٍ، وذل وإذلالٍ، فيحيل تلك البسمة مأساةً وأسىً! إن الأنثى الكريمة، لا تكتمل خصالها ولا تسمو روحها، إلا بتنشئة طيبة تبدأ منذ البشرى بها، بالاستبشار بقدومها، والبهجة بإطلالتها، ومساواتها بشقيقها في المحبة والملاعبة والعناية والاهتمام، فتكبر يومًا بعد يوم، وتكبر فيها الثقة والأمان، لأنها كيان محترم في أسرتها، محبوب لدى والديها، مرغوب عند أقاربها. وفي هذا الجو المفعم، تلقى الأنثى نصيبها من تعليم الفضائل والمعارف، والتربية على خير القيم وجميل الآداب، والفرح بصوابها وتصحيح زلاتها، دون أن تسمع في ذلك كلمات تنبئ عما يحتدم من الضجر بها، والضيق بقدرها، والأنفة من تربيتها ورعايتها. ويكفي البنات شرفًا أنهن يكن لمن يرعاهن سترًا عن النار، وبابًا إلى الجنة، كما جاء في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان له ثلاث بنات يؤويهنَّ ويكفيهنَّ ويرحمهنَّ فقد وجبتْ له الجنةُ البتة)، فقال رجل من بعض القوم: وثنتين يا رسول الله؟ فقال: (وثنتين). وإذا ما أطبق ظلام الجاهلية على القلب، غدت الأنثى عليه عبئًا ثقيلًا يتمنى لو تخلص منه إلى أول خاطب، أي خاطب، وإن كان جاهلًا فاسقًا دنيئًا، لا ابنةً كريمة أصيلة تسلم إلى أفضلهم وأرضاهم، ولسان حاله يقول: لكل أبي بنتٍ يرجَّى بقاؤها ... ثلاثةُ أصهارٍ، إذا ذُكِر الصهرُ فبيتٌ يغطيها، وبعلٌ يصونها ... وقبرٌ يواريها، وخيرهم القبر! إن إمساك الأنثى على هون؛ ينعكس عليها فتشعر بالهوان الشديد على أهلها وعند نفسها، والدونية عن غيرها، فتزدرد العبرة والألم وتسكت على ما قد تلاقيه من إذلال واعتداء، لأنها نشأت ممزقة مبعثرة، عارية عن ثقة تجمع روحها وتحفظ تماسكها وتوازنها. أما إكرام الأنثى واحترام كيانها، والإعجاب بروحها وذكائها، والاعتداد برأيها ومشورتها، واعتبارها كاملة الأهلية مسؤولة مكلفة، فهو ينشئ امرأة مستقلة الشخصية موفورة الكرامة، عارفة بموضعها في المجتمع والأسرة، متوسطة في ذلك بين طرفين: طرف انصاع للهوان فاستمرأه وخضع له، وطرف تمرد عليه فشطح وتحدى وانتقم.. إن من أشد ما يكسر المرأة، تفضيل الذكور عليها منذ صغرها، وتكرار القول بأنهم ما كرموا عليها وعلوا إلا بالذكورية المحضة، فإذا طلبت شيئًا، أو أرادت شيئًا، أو حلمت بشيء، جاءها الرفض صلفًا ومبررًا لأنها أنثى فحسب! وهذا جفاء وجفاف، وإنما لكل جنس منهما نصيب مما اكتسبوا، والواجب توفير البيئة – وبخاصة في العلم والعمل والترفيه – المناسبة لها الطيبة، لا المنع البات والرفض الدائم، حتى لا تشعر بالنقص إزاء أخيها، وإنما الاختلاف والتنوع. إن المقرَّر ألا أفضلية محضة للذكر على الأنثى، كما ليس للأنثى ذلك على الذكر، فلا يكتسب المرء أفضلية على غيره منذ ولادته بشيء لم يكن له فيها اختيار وجهد وكفاح، وإنما معيار التفاضل الوحيد في الإسلام: العمل الصالح، كما قال تعالى: [(وَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124)] سورة النساء. وحيث أُكرمت المرأة، انعكس ذلك على روحها وعطائها في أي وسط كانت، فكانت عند أهلها نسمةً لطيفةً حانية ويدًا مُساعدةً رحيمة، وفي كنف زوجها شريكةً كريمة أصيلة، وعلى أبنائها قلبًا رؤوفًا ومربية فاضلة، واعية بحقوقها قائمة بواجباتها، كما تغدو في تعليمها متفوقة منتفعة، وفي عملها متقنة نافعة، والمؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف. وأكرم بذاك العربي الذي كتب لصاحبه يهنئه ببنتٍ له فقال: (أهلًا وسهلًا بعقيلة النساء، وأم الأبناء، وجالبة الأصهار، والأولاد الأطهار، والمبشرة بإخوة يتناسقون، ونجباء يتلاحقون).