عذرًا أيُّها الشَّاعر الَّذي «ملأ الدُّنيا وشغل النَّاس»!! يا من نظر الأعمى إلى أدبه، وأسمعت كلماته من به صمم، وأصبح الدَّهر يروي قصائده وينشدها، يا من يطلب من ممدوحيه أن يصكُّوا آذانهم عن الاستماع لمدائح غيره من الشُّعراء المعاصرين، فيغري أحدهم بقوله: وَدَعْ كلّ صَوْتٍ غَيرَ صَوْتي فإنّني أنَا الصّائِحُ المَحْكِيُّ وَالآخَرُ الصّدَى بل يوغل أكثر وأكثر حين يتناسى الرُّواة الذين يحفظون الشِّعر ويروونه، فيتجاهلهم، وينظر بعيدًا إلى الدّهر، فهو من يحلِّق بشعره في الآفاق : وَمَا الدّهْرُ إلاّ مِنْ رُوَاةِ قَصائِدي إذا قُلتُ شِعرًا أصْبَحَ الدّهرُ مُنشِدَا فَسَارَ بهِ مَنْ لا يَسيرُ مُشَمِّرًا وَغَنّى بهِ مَنْ لا يُغَنّي مُغَرِّدَا بل إنَّه يقول القصيدة، ويجعلها تُشَرِّق وتُغَرِّب، ثم يتلقَّفها النَّاس بالقبول أو الرَّفض، فيسهرون في تحليلها، ويختصمون حيالها: أَنامُ مِلءَ جُفوني عَن شَوارِدِها وَيَسهَرُ الخَلقُ جَرّاها وَيَختَصِمُ نعم هذا هو حال أبي الطَّيِّب المتنبِّي مع قارئيه ومحبِّيه، يجذبهم لسماعه، ويخوض بهم في فلك الخصومة، إذن ما موقفه من شعراء زمانه، وبلغاء عصره الذين كادوا له أشدَّ الكيد، فهم الذين أرَّقهم حرفه الشَّجي، وأضنتهم قريحته الوقَّادة، وتربُّعه على بلاط سيف الدُّولة، فلم يجدوا بدًَّا من مناوئته وذمِّه والقدح فيه، وهو يصرِّح بمواقفهم تلك، ويقول : أرَى المُتَشاعِرينَ غَرُوا بذَمّي ومَن ذا يَحمَدُ الدّاءَ العُضَالَا ومَنْ يَكُ ذا فَمٍ مُرٍّ مَرِيضٍ يَجدْ مُرًّا بهِ المَاءَ الزُّلالا لقد كان «قدر» المتنبِّي أن يواجه أمثال هؤلاء المتشاعرين الذين «طفحت» قلوبهم غِلًَّا، كما كان قدر هؤلاء أيضًا أن يجابهوا قامةً شعريَّةً يصل صوتها إلى الآفاق، ويسمع شعرها الأصم، لذا لم يجد بُدًَّا من إعلانه استصغار شأن خصومه ضعاف الهمَّة، والإلقاء بهم في غمار الإهمال والنِّسيان : أفي كلّ يوْمٍ تحتَ ضِبْني شُوَيْعِرٌ ضَعيفٌ يُقاويني قَصِيرٌ يُطاوِلُ لِساني بنُطْقي صامِتٌ عنهُ عادِلٌ وَقَلبي بصَمتي ضاحِكٌ منهُ هازِلُ وَأتْعَبُ مَنْ ناداكَ مَنْ لا تُجيبُهُ وَأغيَظُ مَنْ عاداكَ مَن لا تُشاكلُ لقد كان يفطن تمامًا لمن يبتسم له حقيقةً من مناوئيه، ولمن يبتسم له «ليلتهمه»: إذا رَأيْتَ نُيُوبَ اللّيْثِ بارِزَةً فَلا تَظُنّنّ أنّ اللّيْثَ يَبْتَسِمُ فكانت سياسته تقتضي ألا يواجههم بالخصومة، بل يبتسم لهم ويُجازيهم على ابتساماتهم الصفراء : ولمَّا كان وِدُّ النَّاس خِبًَّا جَزَيْتُ على ابْتِسَامٍ بابْتِسَامِ وكان يرفع لمحبِّيه شعار المعرفة التي جمعتهم، ويلوِّح لهم بقيم النَّخوة والشَّهامة : وبيننا لو رعيتمْ ذاكَ مَعْرِفَةٌ إنَّ المَعَارِفَ في أهْلِ النهَى ذِمَمُ وأحيانًا يتحدَّى إن كان أحد من مناوئيه يحمل تلك «المشاعر»الفيَّاضة : إِن كانَ يَجمَعُنا حُبٌّ لِغُرَّتِهِ فَلَيتَ أَنّا بِقَدرِ الحُبِّ نَقتَسِمُ عذرًا أبا الطَّيب فإن القلوب التي تُحمل على النَّعش لا تدرك فحوى الخطاب ولا أبجديات المنافسة، فشكرًا لك لأنك لم تمنحهم شرف المنازلة.. وللحديث بقية إن شاء الله. * الجامعة الإسلامية - المدينة المنوَّرة Mh1111m@: تويتر [email protected]