لا يصح أن نزعم بأننا بالإيمان وحده سننتصر، دون عمل بمقتضيات هذا الإيمان الواجبة عندما نقول لهم: لماذا لم يؤذن للمسلمين بالجهاد؛ إلا بعد تكوين الدولة في المدينة المنورة؟ يقولون: لأن الجهاد لم يكن مأذونًا به قبلها! ويظنون أنهم بذلك قد أجابوا، وهم لم يجيبوا، بل أعادوا السؤال دون وعي! فأنت لا تسأل: لماذا لم يجاهدوا، بل سألت: لماذا لم يُشرع لهم الجهاد إلا في المدينة بعد تأسيس الدولة؟ فإذا أعدت عليهم السؤال؛ لأنهم ما اعتادوا التعامل مع (لماذا)، وما عرفوا إلا (ماذا) قال فلان! وقال علان!! تقليدا بغير فقه ولا علم. فأعد عليهم السؤال بصورة واضحة: هل كان سبب تأخير الجهاد حتى نشأت الدولة سببًا معقولا، مفهومَ المعنى، ظاهرًا للعيان، معلومًا بالضرورة من حوادث السيرة النبوية وقصة نشأة الرسالة؟ فإن قالوا: (الله أعلم)، فقد أجادوا الذِّكْر، ولكنهم أساؤوا الفكر. وإن أجابوا، فلا جواب إلا أن يقولوا: لعدم القدرة عليه قبل تأسيس الدولة القوية القادرة عليه. وعندها سلهم: هل يمكن أن لا يُوجب الله تعالى الجهادَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى السابقين الأولين لعدم القدرة، وهم أولى من جاهد فثبت، وأجدر من انتصر فنُصر، وأحرى من خُرقت له السنن، وأحق من تنزل عليه الملائكة وتتحقق له المعجزات، ثم يكون الجهاد واجبا علينا نحن، ونحن دونهم في كل فضل، وبعدهم في كل حق، مع عدم قدرتنا؟!! والحاصل أن عدم القدرة رافعٌ للتكليف إلى قيام الساعة (لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا)، والواقع أن دفع المفاسد التي لا تندفع إلا بدفع عُظماها بصُغراها قاعدةٌ راسخة إلى أن يرث الله العقول ومن عليها! فسيقولون لك: لكننا قادرون بإذن الله على الجهاد. فقل لهم: إذن انتهينا من أن الجهاد لا يجب علينا إلا مع القدرة، والمقصود بالقدرة هنا القدرة المادية؛ لأن القدرة لو كانت هي التفوق الإيماني لكان الرسول الله صلى الله عليه وسلم هو أول من انتصر بإيمانه، ومع ذلك لم يؤذن له في القتال حتى تمكن من القتال ماديا. فإذا انتهينا من هذه العقبة، وهي أن الجهاد لا يجب إلا مع القدرة المادية، والتي لا يُشترط لها المساواة، فضلا عن التفوق، ولا يُشترط لها إلا أن لا تكون دون نصف عُدّة وعتاد العدو (على خلافٍ في ذلك وتفصيل طويل)، أو أن تكون قوة كافية لإرهابه، في أقل تقدير، كما هو ظاهر قوله تعالى (وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ). فمعنى ذلك أنه يجب علينا أن نقيس قوتنا بقوة العدو ماديا، قبل إعلان الجهاد عليه، وقبل التحرش به بأي صورة من صور التحرش التي نعرف أنها سوف تستفزه لقتالنا، ربما في أرضنا! وتقدير تلك القوة ماديا ليس أمرا مستحيلا، لكنه أيضا ليس مما يستطيعه كل أحد. فهو أمر يحتاج اليوم إلى خبراء عسكريين وسياسيين واقتصاديين، فهؤلاء وأمثالهم هم وحدهم من يحددون القدرة من عدمها، وليسوا هم أصحاب الشجاعة والحماسة الدينية مع فقدان المعرفة والحكمة اللتين لا يمكن بغيرهما تحديد تَحقُّقِ القدرة على الجهاد من عدمه. وبذلك خلصنا: إلى أنه لا يصح أن نزعم بأننا بالإيمان وحده سننتصر، دون عمل بمقتضيات هذا الإيمان الواجبة، وبخاصة مقتضياته المتعلقة بالنصر؛ لأن الإيمان هو الذي يأمرك باتخاذ الأسباب، ويحرم عليك التواكل بترك اتخاذ الأسباب. ومن ترك مقتضيات النصر المادية فقد ترك مقتضياته الإيمانية التي أوجب الإيمانُ عليه العملَ بها، فهو قد أخلّ بألصق عملٍ من أعمال الإيمان (بعد الشهادتين) باستحقاق نزول نصر الله تعالى وتأييده! ولا شك أن الاعتراف بالعجز صعب جدا على النفوس، ولكنه قد يكون من أوجب واجباتها. ولذلك فقد يكون من الجهاد: تَرْكُ الجهاد، حتى نُعِدّ للجهاد! وليس السؤال الذي نُسأل عنه دائما إذا ذكرنا الإعداد: ب (كيف) و(متى) نعد للجهاد.. استبعادا واستخفافا، بالذي يجيز للسائلين عدم السعي للإعداد الصحيح، والتهافت على هلاك أنفسهم وهلاك بلدانهم وأمتهم بجهادٍ هم عنه عاجزون. ف (كيف) و(متى) لا تجيز لك العمل مع الجهل ب (الكيف)، ولا تبيح لك التهور قبل الوقت المناسب الذي يحدده الجواب الصحيح عن (متى). ولنعلم أن الجهاد اليوم والإعداد له إنما يتم بالتقدم العلمي والتقني، وبالاقتصاد القوي الثابت الآمن، هذه هي القوة التي سوف تُمكننا من فرض رؤيتنا دون حاجة لقتال، في أكثر الأحيان، كما هو حال الأمم القوية اليوم، والتي تتمكن بقوتها أن تحارب بغيرها، وأن يحارب عنها غيرها بالوكالة عنها. بل تتصرف في القرارات والمقدرات دون قتال! هذا هو جهاد هذا العصر، لمن أراد الجهاد الحق. وهذه هي شجاعته وصبر ساحة قتاله، وليس شجاعة المتهورين وانعدام صبرهم على طول الطريق. وأذكرهم بما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوله لأصحابه بمكة، فعن خَبَّابِ بنِ الأرتّ قَالَ: (شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ، قُلْنَا لَهُ: أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا؟! أَلَا تَدْعُو اللَّهَ لَنَا؟! قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الْأَرْضِ، فَيُجْعَلُ فِيهِ، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ، فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ، فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ. وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ، مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ. وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الْأَمْرَ، حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَ مَوْتَ، لَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ أَوْ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ؛ وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ). ولكنكم تستعجلون وتسيرون في طريق لا ينتهي بالفشل فقط، بل بزيادة الضعف والتسلط من العدو الغاشم، وبالإثم والسخط من الله تعالى بعدم التزام أمره الذي يحرم تقديم المفسدة العظمى على المفسدة الدنيا. فإلى الجهاد والصبر عليه: العلم والإيمان، والصبر على طول الطريق.. معشر المجاهدين بحق!