أغلب ما قال الباحث التركي «سونر كجابتاي» عن تمايز التجربتين التركية والمصرية، بحيث تؤديان إلى نتائج متباينة، مما استعرضته الأسبوع الماضي صحيح. إلا أن التمايز لا ينفي التشابه، ولا يحتم بالضرورة نتائج مغايرة. بمقالي هذا أعيد تذكيرك بأساس تشابه التجربتين، ثم أين افترقتا كأي حالتين منفصلتين.. ليس صحيحًا ما قاله كجابتاي أن التحديث في تركيا أسبق تجارب الإقليم، تجربة محمد علي في مصر سبقته، إن لم يكن بالوعي بضرورات التحديث فبإجراءاته، ذلك أن سلاطين العثمانيين واجهوا مقاومات ضارية عند تطبيق هذه الإجراءات، بينما لم يواجه محمد علي أكثر من الصعوبات العادية لنقل التكنولوجيا إن جاز التعبير. واقع الأمر أن انتصاراته العسكرية ضد العثمانيين ترجع بالكامل إلى سبقه إلى هذه الإجراءات. قبل وبعد تلك النقطة الزمنية تماثل مسار التطورات التاريخية في البلدين. مسارات التطور التاريخي تشبه مراحل نمو الكائنات الحية، لكل كائن مساره، مهما تشابه مساران لا يتحتم أن يؤديا إلى نفس الخبرات والنتائج. المشاهد أن التجربتين واجهتا نفس التحديات، وعند ذات المنحنيات والنقاط الزمنية، إلا أن تجاوبهما معها لم يكن متطابقًا، هذا بعض مما صنع الفروقات دون أن يلغ أساس وحدة المسار. تطرح الحركة على المسار استحقاقات معينة فى توقيتات معينة، قد يتيسر تجاهلها إلى حين، أما تجاهلها كلية بادعاء أنها غير مطروحة فلا يتأتى بدون أثمان، مشكلة ارتباط التحديث بالتغريب وثيقة الصلة بما نتحدث عنه مردها إلى أن أحدًا لم يقدم مسارًا منفصلًا للتحديث عن ذلك الذي اعتمدته الثقافة الغربية، فإن مثّل الارتباط مشكلة للآخرين فالغرب غير مسؤول عنها، ولا هي من صنعه. طوال قرنين ظلت النخب في تركيا ومصر تواصل التحديثات على ذات المسار، وتراوغ بعضًا من استحقاقاته ما وجدت إلى ذلك سبيلا، هي في الحالتين نخب علمانية، تكوينها الثقافي غربي بضرورات الأمر الواقع، وأولها عدم وجود بديل، في الحالتين أيضًا كانت المعارضات المقموعة المكبوتة ذات ملاذات (من لاذ، يلوذ) دينية، برزت منذ المبادرات الأولى للتحديث قبل 200 سنة، بصور شتى باختلاف الأوقات، وما الأحزاب ذات التوجه الديني في البلدين وغيرهما إلا وريثها المعاصر. النظرة المتأنية للتاريخ ترينا أن فروق التجربتين هامشية، ولا يعني هذا أنها قليلة الأهمية!، حتى أنهما بلغا ذات النقطة التي لم تعد بعدها المراوغة ممكنة في نفس اللحظة الزمنية قبل عشر سنوات، الفرق أن الاستجابة في تركيا تمت بالتراض بانتقال سلس مخطط له، بينما احتاجت في مصر لانتفاضة، أدت إلى انتقال متعسر، ولعله مقلق، قد لا يؤدي إلى نفس النتائج، لكن الحركة على المسارات لا تتوقف، ولا استبعاد الضغوط التي توجبها ممكن. هذه لحظة تعرض علينا ثلاث تجارب متشابهة في تركيا ومصر وتونس، ذات بيئات وخلفيات غير متطابقة، لذلك المقارنة عظيمة الفائدة النظرية. سأواصل الحديث.