لا تتيسر قراءة واقع جاري بشيء من الدقة دون قراءة متأنية للتاريخ، الماضي يعطي الحاضر عمقه وخلفيته، بغيرهما يصعب قراءة الجاري. في علم النفس رأي يقول إن الفرد يقضي كامل حياته بعد المراهقة في التعامل مع أزمات وعقد الطفولة بغية تسويتها بحلول توافقية. الماضي دائمًا موجود في الحاضر وجودًا أثقل مما يعترف به، على مستوى الأفراد كما الجماعات. الوفرة النسبية للمادة التاريخية ما جعل تجربتي التحديث في تركيا ومصر الأسهل للتحليل والتصوير في هذا المشرق. للمغرب العربي سياق انفصل منذ العصور الوسطى، وفيما بعد كان له تجربة مع الاستعمار الأوروبي (فرنسي وإيطالي) مختلفة عما خبره المشرق. لهذا التقسيم الرئيسي تقسيمات فرعية، تجارب دول المغرب الثلاث ليست متماثلة، لكل محلية من محلياتها خصوصياتها، يقال نفس الشيء عن المشرق عربه وعجمه.. التاريخ الحديث التركى والمصري في مداه الأطول مرتبط متشابك، إلى بداية القرن العشرين كانت مصر لا تزال (ولو بالاسم فقط) ولاية عثمانية، المشرق العربي كله أيضًا كان كذلك إلا أنه احتفظ على الدوام بمسافة تبعد أو تقرب من الأستانة أقل من ارتباط القاهرة بها بكثير. مشكلة التحديث في العالم الثالث عموما، أن التطورات التاريخية حملت أوروبا على مسار متسارع فصلها في النهاية عن الآخرين، بحيث أصبح الغرب الآخر المختلف الناجح، وبمثل ما يحدث على مستوى الأفراد عندما يتطور أحدهم (ذكاءً وتعليمًا وثروة) أسرع من باقي أفراد أسرته ومجتمعه الصغير، سيشعر بالغربة بينهم، ويشعرون هم بغرابته عنهم، على مستوى الجماعات البشرية هذا لا يجعل الآخرين فقط قلقين غير شاعرين بالرضا عما هم عليه، بل غير قادرين عمليًا على البقاء على ما هم عليه. مشكلتهم فى الأساس راجعة إلى تقاعسهم من قبل عن الدفع بتطوراتهم الذاتية إلى الاتجاه الصحيح بالسرعة المناسبة، ولا يشترط أن تنتج تلك التطورات ذات الصورة والنموذج الغربي، قد يكون الناتج شيئًا آخر، شرط أن يساويه في الكفاءة، وطالما أن هذا لم يحدث فالتحديث العاجل مشكلة والاستنساخ مشكلة، لها صورة مضاعفة في شرقنا هذا (بمغربه ومشرقه)، ان أوروبا كانت له الآخر العدو منذ اللقاءات الأولى، حتى قبل الحروب الصليبية، هذا عقد قضايا تحديثه بأن أدخل عليها عوامل تصعيب لا تتوافر عند مجتمعات العالم الثالث الأخرى. تفاصيل كثيرة تميز أحداث تركيا ومصر عن باقي مجتمعات المشرق، تضعهما في تصنيف منفصل، بحيث لا ينسحب الحديث عنهما على باقى مجتمعاته، كذلك ثمة فروق بين الاثنين لا تجعلهما مثالين متطابقين. في كليهما فرض التحديث نفسه منذ عهد مبكر (النصف الأول من القرن 19) كقضية إلزامية، في غيرهما لم يكن قضية على الإطلاق قبل منتصف القرن 20 . ثمة فرق بين الإلزام والضرورة، الضروري يتاح تجاهله وغض الطرف عنه، الملزم لا يمكن تجاهله أو تأجيله دون أن يدفع المتجاهل ثمنًا باهظًا، وقد لا يتاح له تأجيله حتى إن حاول. دون الدخول فى تفاصيل تاريخية لا مجال لها ولا متسع، اجتازت تركيا بعد الحرب العالمية الثانية العقبة الرئيسية على طريق تسريع التحديث، ثم تجاوزتها كلية (إذا لم تقع انتكاسة) قبل حوالى 10 سنوات، بينما سارت مصر بعد الحرب العالمية الثانية في طريق مختلف، ولم تتجاوز أبدا تلك العقبة إلى الآن. سيستحيل وضع انتفاضة يناير في سياقها الصحيح بعيدًا عن ذلك التلكؤ غير المشروع عن فعل ما هو إلزامي، الانتفاضة جزء صغير من الثمن الباهظ، أجزائه الأكبر كثيرة، أجيال عدة فقدت بلا سبب مقنع فرصة حياة أفضل على كل مستويات الأفضلية، رغم توفر مقوماتها.. ليس لدى التيار الديني أو العلماني (في السياسة المصرية) برامج معلنة نعرفها للتعامل مع الحدث ومقتضيات المرحلة، عدا برامج قنواتهما التلفزيونية المعنية باللغط والإثارة، لحد ما يمكن تخيل (خيال غير موثوق فيه) ما عساه يكون برنامج العلمانيين، أما بالنسبة للتيار الديني فحتى الخيال غير متاح، وبدلًا عن الوضوح والإيضاح كل منهما مشغول بمقارعة الآخر.