غريبة هي مصائر الإصلاح المؤسسي في الدولة الإسلامية ومحاولات تحديثها على الأنماط الأكثر عملية وفعالية. ينجح الإصلاح أحياناً ويخفق في أحايين ويمضي بسهولة نسبية في مجتمعات وتجارب، فيما يلاقي العنت والصعوبات المجابهة الداخلية في مجتمعات أخرى. في بدايات محاولات تحديث المجتمع والدولة في المجال الإسلامي، وتحديداً في بدايات القرن التاسع عشر، خبر المجال الإسلامي محاولتي تحديث وإصلاح. الأولى في إسطنبول وعلى يد السلطان العثماني سليم الثالث (1789-1808) الذي كان يرأس إمبراطورية تمتد أراضيها على ثلاث قارات: أوروبا وآسيا وإفريقيا. والثانية كانت على يد محمد علي باشا (1805-1848) والي مصر والتابع اسمياً للسلطان العثماني. وفيما كان مصير محاولات محمد علي باشا النجاح في نهاية الأمر، فإن إصلاحات سليم الثالث أدت لعزله أولاً ثم قتله لاحقاً. هذه المصائر المتغايرة بين المحاولتين المتقاربتين زمنياً تثير أسئلة مهمة حول السياقات التي يتم بها الإصلاح قديماً وحديثاً، وتأثير هذه السياقات على النتيجة النهائية لمحاولة الإصلاح إن نجاحاً أو فشلاً. بكلام آخر، لماذا فشل السلطان في الإصلاح والتحديث ونجح الوالي؟ كما ترى عزيزي القارئ، هذا سؤال كبير جداً لا يمكن الإجابة عليه إلا عبر استقصاء تاريخي دقيق. ولم يُتح لي الاطلاع على بحث يقارن بين إصلاح الرجلين ومحاولة الإجابة على السؤال أعلاه. لكن يمكن طرح بعض الفرضيات حول نجاح الوالي وفشل السلطان مستعينين بالمعلومات التاريخية عن طبيعة حكم كل منهما وطبيعة المؤسسات التي قاومت الإصلاح في الحالتين. أول ملاحظة في الفارق بين الإصلاحين أن السلطان العثماني كان يقف على رأس إمبراطورية مثقلة بتحديات بدأت قبول تولي السلطان سليم العرش بعقود، تمثلت هذه التحديات في ضغط النمو الاقتصادي لأوروبا على العثمانيين (فنهضة أوروبا وفرت الذهب لها مما زاد في الأسعار ورفع التضخم)، وبفساد الانكشارية (أي الجيش) الذي تحول إلى مؤسسة تعج بالفوضى والمحسوبيات، وحركات تحرر وتمرد تخرج هنا وهناك، وفوق كل هذا هزائم عسكرية لجيوش العثمانيين على أيدي الروس والنمساويين في وسط أوروبا وشرقها وعلى سواحل المتوسط وفي وسط آسيا على طول القرن الثامن عشر. أدرك السلطان العثماني بعد ثبوت تخلف جيوشه عن منافسيه أنه بحاجة إلى تحديث هذا الجيش إن هو أراد الحفاظ على إمبراطوريته المهددة بهجومات خارجية وتفكك داخلي. وبلغة ألبرت حوراني (في كتابه الفكر العربي في عصر النهضة) كان على الإمبراطورية «أن تفتح صدرها لفنون الحرب الجديدة في العالم الحديث»، وهو ما «أدى إلى قيام الرعيل الأول من السياسيين الغربيين بالتفكير في الشرق الأدنى». حاول السلطان سليم الثالث إدخال إصلاحات عميقة، فبدأ تنظيم الجيش على النسق الأوروبي الحديث، وفتح مدارس غربية فرنسية وإيطالية، وأمر بترجمة العلوم الحديثة إلى اللغة التركية. إصلاحات السلطان جوبهت بمعارضة، فعيّن شاباً اسمه كشك حسين باشا قائداً عاماً. حاول كشك الإصلاح فرتب الجيش على نسق الجيوش الحديثة وأطلق على هذا الترتيب اسم «النظام الجديد». لم يعجب هذا التنظيم الانكشارية فاستصدروا من العلماء، الذين كان تحولهم عبر القرون إلى فئة اجتماعية ذات امتيازات مادية ومعنوية كارثة على الإصلاح، استصدروا منهم فتوى بحرمة التنظيم الجديد لأنه من صنائع بلاد الكفر ومن مبتدعاته. انصاع السلطان للفتوى وأبطل ظاهرياً خططه لتنظيم الجيش، لكن محاولات استمرت بصيغ أخرى، ما دفع العلماء والانكشارية لتدبير انقلاب انتهى بعزل السلطان ثم قتله لاحقاً. فيما يخص محاولات محمد علي باشا، فإن المسألة أخذت مساراً أكثر نجاحاً. بعكس السلطان سليم الثالث، لم يرث محمد علي باشا إمبراطورية تعاني ويلات الضعف، بل إنه المؤسس لسلطة جديدة في سبيلها لتتحول إلى دولة. جاء محمد علي باشا بعد نزوح الفرنسيين وثبوت فشل المماليك في صدهم، كما بدأت جهوده لتحديث جيشه ليس بعد فشل بل بعد نجاحاته في نجد والشام، وهي النجاحات التي دفعته للتفكير في إنشاء دولة حديثة، وأيقظت فيه حب التوسع. نخبة المؤسسة العسكرية المسيطرة لقرون على مصر، أي المماليك، أمكن القضاء عليها في مذبحة القلعة. كذلك لم تعرف مصر، وهي الولاية العثمانية وليست مركز الإمبراطورية، تغوّل المؤسسة الدينية. لذا، تمكن محمد علي بشيء من الدهاء من القضاء على ممانعة العسكر لتحديث الجيش. الجيش الذي كان خليطاً فوضوياً من الألبان والأكراد والمماليك والبدو، والذي كان يعمل على نسق حرب العصابات والسلب والنهب، تحول إلى جيش حديث قوامه المصريون أنفسهم، تقوم للإعداد له مؤسسات تعليمية للضباط والجند تدرس فيها العلوم العسكرية الأوروبية. كما عمل على إحداث تصنيع عسكري في مصر. أما في التعليم فقد بدأ في إرسال البعثة العلمية تلو الأخرى إلى أوروبا لدراسة «العلوم العسكرية والإدارية والطب والزراعة والتاريخ الطبيعي والمعادن والكيمياء والهيدروليكا وصب المعادن وصناعة الأسلحة والطباعة والعمارة والترجمة» (ويكيبيديا). كما أدخل التحديث للزراعة والصناعة والتجارة. بل إنه نجح في تحديث أساس الاقتصاد المصري، لدرجة أن القوى الاستعمارية في عهده (بريطانيا وفرنسا) فرضت عليه بعد هزيمة جيوشه سنة 1840 أن يُلغي من باله فكرة التصنيع الحديث، وأن يهتم بزراعة القطن لتصديره للمصانع المتعطشة في أوروبا، أي أن يصبح مصدراً للمواد الأولية فقط وليس طرفاً مُصّنعاً. تثير المآلات المتباينة لإصلاحات سليم الثالث ومحمد علي، وهما المتزامنان، أسئلة ربما أهمها هو لماذا نجح الوالي وفشل السلطان؟ في فهم عوامل فشل السلطان، يذكر المؤرخون ثلاث فئات اجتماعية كان تعاونها الناجح سبباً في إفشال إصلاحات السلطان. هذه الفئات هي، بحسب حوراني، الانكشارية والعلماء والجماهير. ربما أن التأثير الأضعف للمؤسستين الأوليين في مصر، مقارنة عنه في إسطنبول، سهّل على محمد علي المضي في إصلاحاته دون ممانعة من الجماهير.