حديث النموذج التركي له جاذبية، لا علاقة لها بالأهمية النسبية لتركيا في الإقليم أو لدورها فيه، الموضوع جدير بالعناية من زاوية نظرية بحتة، لارتباطه بقضيتي التحديث والتغريب، ثم إمكانية التحديث ومشكلاته. الباحث التركي سونر كجابتاي كتب في مجلة الأطلنطي مقالًا قصيرًا حول الموضوع، خلاصته أن الحالة التركية لا تقبل التكرار في بلدان الشتاء العربي، وأن وصول تيار الإسلام السياسي في تلك البلدان إلى الحكم لن يؤدي إلى نفس الصورة المستقرة والنتائج الإيجابية في التجربة التركية، لأنها جرت في إطار سياسي اجتماعي لا يُشبه ما لدى الآخرين، فتحديثات تركيا إلى اتجاهات غربية وراءها قرنين من الزمان، وقد تأسست على شكل تنظيمي راسخ طوال الحقبة الكمالية، بحيث ما عادت مهيئة لانتكاسات حادة، علاوة على تمتع المجتمع هناك نتيجة لنجاح تحديثاته بدرجة عالية من تقبل الآخر المختلف في الرأي والتوجه، وهو أمر جوهري للممارسة الديمقراطية، جميع ذلك لا يتوافر للآخرين. يضيف سونر أن التيارين الرئيسيين في تركيا محددان بدقة لا لبس فيها، الكماليون يرون أنفسهم بالثقافة والعقلية جزءًا من الغرب، وشرقيتهم مسألة جغرافية وحسب، هذا ما يعارضه حزب العدالة والتنمية ويسعى لتغييره. وذلك فرق ليس حاسمًا ولا حادًا كما يتخيّل كثيرون، فالفلسفة الاقتصادية للحزب رأسمالية ليبرالية، وفلسفته السياسية ديمقراطية علمانية، هو فقط لا يرى تركيا جزءًا من الغرب لا بالجغرافيا ولا التاريخ ولا الثقافة، في نفس الوقت لا يراها في صدام أو عداء معه، بالنسبة للحزب انتماء تركيا إلى التحالف الغربي بشقيه الاقتصادي والعسكري مسلمة لا خلاف حولها وخارج كل النقاش. فما الذي يتبقى من فروق بين التيارين!؟.. جد قليلة لا تكاد تستبين، ولا تمنع تعايشهما ديمقراطيا. وليس هذا هو الحال في مجتمعات الشتاء العربي، التي تعصف بها أنواء مرحلة الانتقال، حيث الفروق غامضة بفعل شعارات تستقطب ولا توضح!، وحيث التشوش سيد الموقف.. هذا باختصار ما قال. لا أرى محلًا للحديث عن بلدان ربيع أو شتاء، لدينا حالتان فقط لمراحل الانتقال في مصر وتونس، وما نعرفه أنا والقارئ عن تونس قليل، لذلك سينصب تعليقي على مصر. أوافق الكاتب على جل مقدماته، وأخلافه فيما استنتج منها، نجاح الانتقال في مصر صعب لكنه غير مستبعد، لن يأت بالسلاسة التي نعم بها الانتقال التركي.. مهم أن نعرف أن خلاف الفريقين في تركيا لم يدر حول التحديث واتجاهاته وصورته، إنما حول إجراءاته وسرعته، الحال لم يكن كذلك في مصر، كان طريق التحديث مسدودًا، استعيض عنه بتحديث صوري (لا أقول شكليا)، فاقد النية الصادقة لتحديث حقيقي، لا يتيح مجالًا للحركة إلى الأمام إلا من خلال انتفاضة، لم يكن محتملًا أن يجري الانتقال بالطريقة التي جرى بها في تركيا قبل عشر سنوات. التحديث الصوري لا يتيح حياة سياسية بالمعنى المعاصر، بالتالي ولا يوجد سياسيون أو قوى سياسية بنفس المعنى، مهيئين للعمل في أجواء ديمقراطية. أكمل الأسبوع القادم.