مما يحتجُّ به في المسألة النقديّة التي تتعلّق بضيق خيال المرأة قياسًا بخيال الرجل هو أنّ فعل التخيُّل مفتقرٌ إلى إدراك سابق ، و أن مدركات المرأة أقلّ إذا ما قيست بالرجل الذي تختزن حافظته صورًا أكثر تمدّه بالمادّة حين يشرع في فعل التخيُّل أثناء التركيب ، و من غير شكّ فقد بطل هذا التميُّز في عصرنا الحاضر فلم يبق سوى القدرة على التركيب ، و في هذا الجانب أجد للمرأة قدرةً إبداعيّة خلاقة ، ربما كان مردُّها إلى أنّ المرأة تحتفظ بالتفاصيل أكثر ، و هذا يمكّنها من إنتاج الصورة بشكل أدقّ حين تملك الموهبة القادرة على استثمار ما لديها من صور في الحافظة ، و قد عدَّ عبد القاهر التفصيل مزيّة في الصورة ، و أثنى على الخيال الذي يقع على الهيئات و الحركات لما في ذلك من تفصيل يصل أحيانًا إلى أن يكون تفصيلًا داخل تفصيل ، و ساق لذلك شواهد بديعة ، غير أنّي سأقف هنا عند خيال امرأة تثبت صحّة ما ذهبتُ إليه ، إذ استطاعت أن ترسم صورةً أكاد أجزم أنّها تصلح مونتاجًا في صورة تكنولوجيّة متحرّكة ، تلك هي الخنساء التي التقطت معادلا لحزنها حركة الناقة في إقبالها و إدبارها ، في بيتها الشعري المعبّر : « ترتع ما رتعت حتى إذا ادّكرت فإنما هي إقبالٌ و إدبارُ « ، و الصورة الحركية في قولها : « فإنما هي إقبالٌ و إدبارُ « ، أي أنّ الناقة لكثرة إقبالها و إدبارها صارت هي الإقبال و الإدبار ، و من هنا رفض عبد القاهر فكرة تقدير محذوف « ذات إقبال و ذات إدبار « ، لأنّ ذلك - على حدّ قوله - يفسد الشعر ، و إنما المقصود ، كما يقول عبد القاهر « أن جعلتها لكثرة ما تقبل و تدبر ، و لغلبة ذاك عليها و اتصاله منها ، و أنّه لم يكن لها حالٌ غيرهما ، كأنّها قد تجسّمت من الإقبال و الإدبار « [ دلائل الإعجاز : ص 300 ] ، و قد رأيتُ مرةً هذه الصورة في الرسوم المتحرّكة حين تسرع الكاميرا فيظهر الشاخص الكرتونيّ في صورة إقبالٍ و إدبار حتى يمتزج بالحركة ذاتها ، و هنا تكمن قيمة التركيب و يتضح أنّ الفارق لا فيما تحتفظ به المخيّلة فحسب ، و إنما في فعل التخيُّل و إنتاج الصورة ، و قد بان من خلال ما سبق أنّ الخنساء سبقت الزمن بمخيّلة منتجة استطاعت من خلالها تركيب صورة بديعة من واقع بدويّ لم يتجاوز ناقةً ترتع استحالت ، في مخيّلة الشاعرة ، إلى معادل لامرأةٍ حزينةٍ تلتقط تفاصيل المشهد بدقّة متناهية . [email protected]