مدخل: * في حضرة الموت/ ينتهي كل شيء.../ كل شيء../ ولا يبقى سوى الموت!! سعيد السريحي * لا أعرف الشخص الغريب ولا مآثره/ رأيت جنازة/ فمشيت خلف النعش،/ مثل الآخرين مطأطئ الرأس احترامًا/ لم أجد سببًا لأسأل: من هو الشخص الغريب؟!/ وأين عاش، وكيف مات../ فإن أسباب الوفاة كثيرة من بينها وجع الحياة. ... ... وتهت في قلبي على باب.../ ربما هو كاتب، أو عامل، أو لاجئ، أو سارق، أو قائل.../ لا فرق، فالموتى سواسية أمام الموت../ لا يتكلمون، وربما لا يحلمون/ وقد تكون جنازة الشخص الغريب جنازتي../ لكن أمرًا إلهيًا يؤجلها../ لأسباب عديدة/ من بينها خطأ كبير في القصيدة!! محمود درويش *** تعريف: (1) بهذه المفردات الجنائزية التي توجت بها كتابي: في حضرة السيد الموت الصادر عام 1432ه عن نادي الجوف الأدبي، أدلف إلى المنجز الشعري الثاني للشاعر عبدالرحمن الشهري الموسوم ب»لسبب لا يعرفه»، والصادر عن مؤسسة الانتشار العربي في طبعته الأولى 2012م/ 1433ه. (2) وعبدالرحمن الشهري هو صاحب الديوان أسمر كرغيف الصادر عام 2004م. وبين التاريخين 2012م، 2004م، زمن ليس بالقصير ثماني سنوات عجاف لم ينشر فيهن أي عمل شعري!! وهذا مظنة سؤال وتحفيز!! فالشاعر عبدالرحمن الشهري مقل في إنتاجه، بخيل في نشره، يتوارى كثيرًا كثيرًا ثم يقول ها أنذا!!. *** مداخلة: (1) الديوان ينتمي إلى مجال النص الشعري القصير جدًا (ق.ق.ج) أو ما أسميته في ذات دراسة نقدية/ النص البخيل (أنظر كتابي في فضاءات النص الشعري السعودي طبع عام 1427ه نادي المدينة الأدبي)، كما ينتمي إلى قصيدة النثر، تلك القصيدة التي لا يفك أسرارها إلا الناسكون في محراب الشعر التقليدي/ الكلاسيكي/ والشعر النص الحديث، وفي هذا النوع من الشعر كتبت ذات استبصار صحفي ما يلي: (أعتقد أن قصيدة النثر بدأت تفرض نفسها بقوة لاسيما وأن روادها الذين أسسوا لها من أمثال أنسي الحجاج، وأدونيس، ويوسف الخال قد وطنوها في تراثنا وسياقنا الأدبي الشعري وأصبح لها مريدون ومسوقون حتى أصبحت تذكر في كل منتدى وملتقى شعري. ولكن للأسف البعض من الشعراء الذين يتعاطون هذا النوع من الحداثة الشعرية لا يعرفون أنها فن جديد وليس من السهل ارتياده والأمر يحتاج إلى الصقل والموهبة والتأسيس على التراث الشعري القديم/ الكلاسيكي، والمعاصر/ الحداثي وعدم استسهال هذه النوعية من القصيدة لأن شرطها الأوحد هو الشعرية الإيحائية والدلالية التي تجعل من هذا النص مقبولًا لدى المتلقي الواعي، والمتلقي الناقد. وعلى أية حال فقصيدة النثر أو النثيرة -كما يسميها البعض- شكل كتابي جديد واجه إشكالية ثقافية بين القبول والرفض بين الألق والتشتت لكنها تستمد واقعيتها وصيرورتها من خلال الفصل بين فني القول: الشعر والنثر فلكل مجاله وفنيته. وقابلية النص النثري/ الشعري، يحتاج إلى تحقق شرطين أساسيين هما: شرط الموسيقى في النص، وشرط الاستجابة والقابلية لدى المتلقي، وبهذا تنجح قصيدة النثر في الوصول إلى أذن السامع وقبول القارئ. إن كثيرًا من النقاد العرب يتعاملون مع هذه القصيدة على أنها ما زالت تبحث عن نفسها، لأنها تائهة بين المفهوم الغربي والمفهوم العربي فهي أصلًا ولدت في الغرب ونقلت إلينا من خلال الترجمة والاطلاع على الآداب الغربية وقصائدهم النثرية والتي كانت من شروطها «الاعتباطية، الغرائبية، السريالية، الصور الشعرية، البنى التعبيرية، الإيجاز، التوهج، غير العادية». ولذلك فإن بعض الشعراء العرب لم يستطيعوا أن يبدعوا شروطهم العربية ولم يتمكنوا من تحقيق الشروط الغربية فتاهت القصيدة النثرية بين الرفض والقبول. وعلى هذا المهاد التأسيسي أقول إن هذا الديوان نموذج جيد على قصيدة النثر في السعودية، ومحاولة بارزة تؤسس لما بعدها من تداعيات نصوصية على يد الشعراء المبدعين من جيل القصيدة المعاصرة في السعودية أمثال: مسفر الغامدي، علي الحازمي، عبدالرحمن موكلي، حمد الفقيه، أحمد الملا، إبراهيم الحسين، إبراهيم زولي وغيرهم. (2) كما ينتمي الديوان إلى فضاءات «الموت» ودلالاته وتشظياته، فمنذ العتبة النصية على غلاف الديوان الأخير نقرأ النص المنثور على الصفحة 51 بعنوان استراحة والذي يفتتحه الشاعر بمفردة (الموت) ويكررها في النص القصير (مرثان) ونفس التوجه تجده في عتبة الإهداء: «ماتت عائشة.. لأن الموت....» وكذلك نجده في مقولة (ي. أنيلبرت ميلر) الشاعر الأفرو أمريكي التي مهد بها للديوان ص9 وجاءت كالتالي: لو لم أؤلف تلك القصائد أكنت ستصدقين حياتي.. ..» هنا الحياة معنى من معاني الموت!!. وإذا دلفنا إلى فضاءات الديوان وجدنا الموت حاضرًا في كل مفرداته ونصوصه وإن لم يكن الموت فإن نقيضه «الحياة» يكون حضورها دالًا عليه، وكذلك كثير من الجمل والمفردات التي لا تخرج ولا تبتعد عن دلالات الموت وفضاءاته التصويرية. هذا الفضاء الثنائي يجعل الشاعر أمام اكتئابية نفسية يشهر من خلالها وقوفه العاجز أمام هذه المسألة القدرية الشائكة إلا من تناولها الشعري بحيث تصبح القصيدة/ النص الشعري حياة وخلودا لما كان أصلًا موتا وفناء!!. وعندما يستحضر الشاعر بعض الشخوص الكبار شعريًا (الجد، الجدة، الأب، الطاعن في السن، الأم المكلومة، الأخت المريضة) أو أصحاب الأثر والتأثير (المعلم، الفتاة التي أحبها، فتيات القرية) فإنما يستحضر الزمن في أبعاده الثلاثة (الماضي- الحاضر- المستقبل)، لتتحول هذه الزمنية إلى ضاغط نفسي يشي بعدم الجاهزية لاستقبال ما هو مؤلم ومخيف/ الموت، فتتشكل من خلال هذه الأيقونات معالم النص الجنائزي -إذا صح التعبير- من مثل قوله: «الموت الذي تخطاه هذه المرة... لن يتخطاه في المرة المقبلة» نص استراحة ص 51 «العمر يلملم أشلاءه.. ويذهب إلى حيث لا يدري نص تساقط 52 «إن العمر الذي يجري مثل النهر سيحمل معه الكثير من الرغبات المؤجلة» قدر ص 53 *** (3) تتبلور القصيدة النثرية في هذا الديوان عبر المقاطع الشعرية القصيرة أو ما يكن أن نسميه ( ق.ق.ج ) (قصيدة قصيرة جدًا) وهي ما اعتبرها الشاعر عبدالرحمن الشهري «فن الحذف والتقشف» وسماها آخرون من النقاد: نص الومضة أو الفلاش، وأنا أسميتها -كما قلت آنفًا- «النص البخيل» (وللتوسع راجع كتابنا السابق ذكره، ص ص 153 - 161)، وعليه فإن جميع نصوص هذا الديوان التي بلغت (33) نصا هي من النصوص البخيلة/ الومضة/ الفلاش أو القصيرة جدًا لكنها كثيفة اللغة، واضحة المعنى، تهتم باليومي والمعاش، بعيدة عن الترهل والتكرار، تتعامل مع الواقع بواقعية، لا يتعب الشاعر في المحسنات البديعية أو الفذلكات التي تؤطرها البلاغة العربية (المجاز والطباق والجناس) وغيرها، وإنما يصل إلى ما تريده القصيدة/ النص دون لف أو دوران!!. *** (4) وأخيرًا يتنامى الديوان في الفضاء القصي للشعرية النثرية من خلال مفاتيح النصوص، أعني العنوانات التي يشكل معظمها جزءا من النص/ فاعل فيه/ متجذر في سياقاته المختلفة مما يجعل العنوان مكون أساس من النص وتجلياته: ففي نص (قصيدة) يظهر العنوان ملمحًا رائدًا في النص منذ المطلع وحتى الختام: « الليل بطوله/ لا يكفيه للنفخ في رماد قصيدة/ انطفأت في رأسه..... سيكتب شيئًا على الورقة/ ودمه يسيل على حوافها» ص 22 وفي نص (محاكاة) يكون العنوان أسًا وفاعلًا: « فيما بعد/ صار يحلو له التشبه بجده الذي/ كان يجلس تحت شجرة عتيقة بجوار البيت» ص 31 وفي نص (دور) يبدو العنوان متجذرا في النص: « أسباب كثيرة دفعته لتقمص/ دور الأب كل صباح..» ص 39 والجميل هنا في هذه العنوانات، أنها جاءت مفردة من كلمة واحدة، ومن يطلع على المحتويات يلحظ هذا الجمال الشعري الذي تفرد به الشاعر عبدالرحمن الشهري في هذا الديوان، وهذا يحيلنا -دلاليًا- إلى مفردة «الموت» الشيء الواحد/ المفرد الذي لا ثاني له فقط تتغير صوره وآلياته ولكنه يظل واحدًا ومفردًا وهذا ما يجعل الشاعر -بوعي أو بغير وعي- يحتاز عناوين نصوصه مفردة ومن كلمة واحدة لأن الموت كذلك!!. *** ختام: ...وبعد فكثيرة هي الدواوين الشعرية السعودية التي صدرت في عام 2012م، ولكن القليل منها هو الذي يستوقفك، ويستهوي ذاكرتك القرائية، ويحث قلمك النقدي على التماهي والتواصل في مقاربة حوارية تنمو بنا إلى ما نسميه الكتابة الموازية أو الكتابة على الكتابة بعيدًا عن آفاق الدرس النقدي الجامد في صيغه التحكيمية والتقيمية، ومن تلك الدواوين هذا الذي بين أيدينا حيث فتح لنا أفقًا معرفيًا ونقديًا تعاطيناه شاكرين ومقدرين، فنحن أمام قلم مبدع، ونصوص نثرية إبداعية تضيف إلى المشهد الشعري السعودي معلمًا جديدًا.