نايف كريري - جازان كثير من الشعراء والأدباء والمثقفين والمفكرين على مستوى وطننا العربي الكبير يعانون المرض، وتحبسهم الآلام على فراش من نار، وينادون بأعلى صوتهم ولكن لا يسمع أنينهم أحد، ولا يستجيب لشكواهم بلد.. وهكذا هو الحال ننتظر إلى أن يطمس الموت هذا المثقف أو ذاك أو يغيّب الموت هذا الشاعر أو ذاك ثم نبدأ بالكتابة عنه، ونكيل عندئذٍ وابلًا من الحسرات واللّوم والعتاب على من كان سببًا في تدهور حالتهم، وعلى من أهمل السؤال والاهتمام والعناية بحياتهم، وننسى أن الكتابة عن هؤلاء سبب رئيس في الوقاية من الإهمال، كما أنها سبب في تنبيه الغافلين والمتناسين على أدوار تركوا العناية بها منذ زمن. الشاعر السوداني محمد الفيتوري واحد من هؤلاء، حيث يرقد على فراش المرض بمدينة الرباط المغربية منذ مدّة ليست بالقصيرة، أشيع أكثر من مرة خبر وفاته وتأهب الجميع لنعيه إلّا أنّ كلّ تلك الشائعات كانت محض «نعي مبكر لموت لم يحن بعد»، فالفيتوري بات اليوم يقاوم الاثنتين المرض وإشاعات وفاته، وهكذا مات في «المراثي المستعجلة» واقفًا قبل أن يسجّى في قبره.. الفيتوري الذي اختار المغرب موطنًا وسكنًا له منذ العام 1986، يعاني محنًا كثيرة تواجهه باستمرار في حياته وخلال مسيرته الشعرية؛ بل وتقذف به إلى أبعد من خيالات التعب والحرقة، فهو إلى جانب محنة مرضه المتواصل، يعاني من العوز والنكران والتجاهل، فأي تكريم يجده هذا الرمز الأدبي في عالمنا العربي، بل أي حال وصل بنا أن ننسى قامة فارقة مثل الفيتوري ونتّجه إلى ما هو دونه، ونؤجل لقاءنا به إلى حين وقوف قطار حياته، وتنحيه عنها، ومن ثُمّ نبدأ في تذكر مسيرته لنكتب عن بعض من تجاربه وشعره. إنه نموذج لكثيرين لا نعرف قيمتهم إلاّ بعد وفاتهم، ولا نهتم بهم سوى يوم أو بعض يوم، بل ويشغلون بعض أحاديث مجالسنا الخاصة والعامة ثم نولّي بعيدًا عنهم، وقد لا نعود إليهم أبدًا ولا حتى في تفكيرنا فيهم أو في تجربتهم التي تركوها لنا. محنة الفيتوري - كمثقف وشاعر عربي- لا تجعل من السودان - المتنكّرة له - أو ليبيا التي سحبت جوازها منه مؤخرًا، البلدان الوحيدان الكفيلان بمساعدته على تجاوزه لهذه المحنة، بل إن العالم العربي برمّته مطالب بالتواصل معه والعناية الفائقة به ليتجاوز آلامه وأتعابه، وذلك لنرد له بعض الحق الذي طال ما دونه في شعره حينما كتب القصيدة العربية المعاصرة وفي طياتها أبعادًا عربية وأفريقية وكونية، وطالما حملت معانٍ شعرية تفوق كل التفكيكات والتركيبات النقدية التي درست شعره أو تعرضت له، فكان واحدًا من أعمدة الشعر العربي الحديث. وإن كان في العمر بقية لهذا الشاعر فالنستثمرها في ترميم ما فات ومداواة الجراح التي ربما لن يشفي سقمها إلاّ الموت، ولنهتم بالفيتوري قبل فوات الوقت كما فات غيره ممن سبقوه، وربما يلحقون به. يقول الفيتوري منشدًا شعور العجز والتيه: ما بيدي أن أرفعك.. ولا بها أن أضعك.. أنت أليم.. وأنا أحمل آلامي معك.. وجائع.. ومهجتي جوعها من جوعك.. وأنت عار.. وأنا.. ها أنذا عار معك.. يا شعبي التائه.. ما أضيعني، وأضيعك.. ما أضيع الثدي الذي أرضعني.. وأرضعك.. يا ليته جرعني سمومه.. وجرعك