قبلَ أيامٍ معدوداتٍ أدَّى حجاجُ بيتِ اللهِ الحرامِ فريضَتَهم الواجبةَ تحت مظلَّةٍ آمنةٍ بفضلِ اللهِ أولاً، ثمَّ بفضلِ دولةٍ، وحكومةٍ، وشعبٍ رَهَنوا أوقاتِهم وجهودَهم لهذا الواجبِ العظيمِ. لنْ أتحدَّثَ عن تلك المشروعاتِ العملاقةِ التي تُدارُ صباحَ مساء في مكةالمكرمة -حرسها الله- حتَّى غَدَتْ جبالُها، ووهادُها، وسهولُها ساحةً من الحِراكِ لا يهدأُ، وعجلةً من العطاءِ لا ينضبُ. ولنْ أتحدَّثَ عن تلك الأعدادِ المتزايدةِ حتَّى شارفت على خمسةِ ملايين، وهي تقضي ركنَها في وقتٍ معلومٍ، ومساحةٍ محدَّدةٍ، يجتمعُ فيها الكبيرُ والصَّغيرُ، والصَّحيحُ والمريضُ؛ فضلاً عن حضورِ ذلك التَّنوّعِ المذهبيِّ والمشاربِ الثَّقافيةِ المتقاطعةِ. كلُّ ذلك معروفٌ لا تخطئه العينُ، حينما نضعُ الموازينَ في حِسابِ الأعمالِ والأفعالِ، ونختبرُ مقاييسََ الواجبِ والتَّبعاتِ، دون النَّظرِ في حسابِ المنّةِ، أو مقياسِ الاستكثارِ، كما هو حالُ مَن يجعلُ من (الحبَّةِ قُبّةً)، أو يصنعُ من المنطادِ التَّافهِ بالنَّفخِ فيه كي يعلوَ ويكبرَ وهو لا يتعدَّى مساحةَ يدِ طفلٍ صغيرٍ!! ولكنَّني سأرهنُ مقالي هذا في مفارقتين، تستحقّان التَّأمّلَ والمراجعةَ، مع الإقرارِ ابتداءً بالأخطاءِ التي تقعُ كلَّ سنةٍ في الحجِّ، وهي أخطاءٌ لا تتكئُ على القصديَّةِ حال وقوعِها؛ ولكنَّها في الجملةِ أخطاءٌ تتوالدُ كلَّ سنةٍ بحسبِ الحالِ، وهو أمرٌ يحضرُ بقوّةٍ إذا أخذنا في زاويةِ العقلِ جملةً من المعطياتِ المعروفةِ؛ ولكنَّ المبالغةَ في تضخيمِ الأخطاءِ، وجعل العين لا ترى إلاَّ هي مدعاة للسّؤال، وكلَّما قَرُبَ، أو اقتربَ تضخيمُ الخطأ من المقرّبين زادت المأساةُ، وتضخَّمت علامةُ الاستفهامِ! تؤكدُ الحقائقُ على صعيدِ الواقعِ أنَّ حجَّ هذا العامِ ناجحٌ بامتيازٍ، في مقابلِ ما يؤكِّدُه السِّياقُ الجمعيُّ أنَّ كثيرًا ما يكونُ الإسقاطُ (المُشِينُ) في حقِّ النَّاجحين، والمجتهدين، والعاملين من داخلِ بيئاتِهم، ومن حظيرةِ مجتمعاتهِم. وتأتي المفارقةُ الأولى من رجلٍ خارجِ الدَّائرةِ المحليَّةِ؛ فقد نشرت صحيفةُ "الشرق الأوسط" تصريحًا لأحدِ الضُّبَّاطِ البريطانيِّين، واسمه "مقدوم تشيسي الكوماندر"، مؤكدًا فيه أنَّ "السعوديةَ تستحقُّ الميداليَّةَ الذَّهبيَّةَ في إدارةِ تنظيمِ الحشودِ، وتوجيهِ الكُتلِ البشريَّةِ". وقال: "عندما يأتي قرابةُ خمسةِ ملايين حاجٍّ في وقتٍ واحدٍ، ومن عدِّةِ مشاربٍ، وثقافاتٍ متعدِّدةٍ، يحتاجُ الأمرُ إلى ترتيباتٍ وتجهيزاتٍ أمنيِّةٍ معقَّدةٍ، لكن من النَّاحيةِ الشَّرطيَّةِ نلاحظُ أن جميعَ الحجاجِ أتوا لتأديةِ مناسكِهم، ولديهم هدفٌ سامٍ ونبيلٌ". ويؤكد: "بريطانيا أمضت شهورًا طويلةً، ومضنيةً تجهيزًا لمناسبة تنظيم الأولمبياد، وهي لا تتكرَّرُ سوى مرةٍ واحدةٍ في البلادِ على الأقلِ في الأعوامِ العشرةِ اللَّاحقةِ، في حين أنَّ شعيرةَ الحجِّ تتكرَّرُ كلَّ عامٍ، ويتطلَّبُ تجهيزها استعدادًا ضخمًا متواصلاً.. هنا يكمنُ الفارقُ، ولو كانَ لي من الأمرِ حيلةٌ لمنحتُ السعوديةَ الميداليَّةَ الذَّهبيَّةَ نظيرَ التَّرتيباتِ التي تتَّخذُها كلَّ عامٍ". إنَّ "مقدوم تشيسي الكوماندر" مجرَّد حاجٍّ أتى لتأديةِ فرضِهِ الإسلاميِّ دون أدنى تبعةٍ يتحمَّلُها في نجاحِ موسمِ الحجِّ، أو إخفاقِ القائمين عليه، فلا تثريبَ يطَاله إلاَّ ما قدَّمه هو لنفسِه أثناءَ أداءِ ذلك الرُّكنِ، أَصْدَرَ حُكْمَه، وهو لا يحملُ في داخلِه دسائسَ الحاقدين، ولا يتستَّرُ به جَنيًا لمصلحةٍ، ولا تزلُّفًا. حَضَرتْ بقوّةٍ شهادةُ الحكوماتِ ورجالاتِ السَّاسةِ تعزيزًا لهذه الإشادةِ؛ لكنَّني نحيّتُها؛ لأنَّ أغلبَها تحملُ حساباتٍ لها دلالُتها في عُرْفِ الدُّولِ والحكوماتِ. أمَّا المفارقةُ الثَّانيةُ فأبطالُها من هنا؛ ولكنَّها معاكسةٌ ومغايرةٌ لم تقف على الواقعِ، ولم تتصل به، دعوني أَسْتبن الرُّشدَ من بعضِ أصحابِنا، ومن أبناءِ جلدتِنا ممّن لا يعرفونُ من الأعمالِ الجليلةِ إلاَّ تلك البقايا المتناثرة في أطرفِ المائدةِ المليئةِ بالخيراتِ؟ هنا يحضرُ السّؤالُ: لماذا أتت الشَّهاداتُ من أصحابِ الفطرةِ النَّقيةِ ومن خارجِ الدَّائرةِ المحليَّةِ، ثمَّ يأتي حفنةٌ من أرذلِنا يحاولون خَنْقَ ذلك الإنجازِ بكلمةٍ هنا، وإسقاطٍ هناك؟ سؤالٌ يحقُّ لنا طرحَه، كما يحقُّ لنا أنْ نتجشَّمَ العناءَ في سبيلِ تقديمِ حُسْنِ النّيَّةِ؛ ولكنَّ النّيَّةَ قد لا تشفعُ لهؤلاءِ حال عرضِها على مقاييسِ النَّقدِ، ومقاييسِ العقلِ، وأن تقرأ ما بين السُّطور..!!