أصبح التاريخ المعاصر للشعب الفلسطيني يمثل سلسلة من الذكريات الأليمة لعدد لا حصر له من المآسي، والمؤامرات، والمذابح، وحملات التشويه والتزوير، وسرقة التاريخ والحضارة، والسطو على التراث التي تعرض لها عبر قرابة المائة عام الماضية ،دفع خلالها ثمنًا باهظًا من دماء أبنائه، دفاعًا عن حقه في الوجود ضمن دولته التي عاش على ترابها وتجذر على أرضها منذ أقدم العصور، وهو ما تثبته شواهد الآثار وأسفار التاريخ وآثار خطو الأنبياء الذين مروا على قدسها منذ عهد أبي الأنبياء سيدنا إبراهيم عليه السلام عندما نزل على ملكي صادق ملك أورشالايم الكنعانية حوالي سنة 1800 ق. م. وحيث أثبت المؤرخون منذ عهد مانيطون وهيرودوس وحتى اليهودي يوسيفوس وإلى جيمس فريزر وبريستيد وتوينبي أن فلسطين ظلت مأهولة بسكانها الذين ينتمون إلى العرق السامي العربي الكنعاني منذ آلاف السنين. وبالرغم من هذه الحقائق الساطعة إلا أن التحالف الاستعماري -الصهيوني الذي تأسس مع ظهور الحركة الصهيونية نهاية القرن التاسع عشر ودشنت أول مشروعاته التآمرية على هذه الأمة بدءًا من وعد بلفور نجح مع الأسف الشديد في إجراء أكبر عملية غسيل مخ للعالم عبر أساليب الدعاية المفبركة من خلال ترويجه لفكرة أن فلسطين أرض بلا شعب، وأنها الوطن الأصلي لليهود، وظلت تضرب على هذا الوتر مستغلة المذابح التي تعرض لها اليهود في روسيا في عهد القيصر اسكندر الثاني، ثم مذابح الهولوكوست في أوروبا الشرقية في عهد هتلر مستدرة عطف الغرب ليدفع شعب فلسطين ثمن اضهاد روسيا القيصرية وألمانيا النازية لليهود. ومع الأسف الشديد جاءت الذكرى 95 لوعد بلفور المشؤوم هذا العام والكيان الفلسطيني الهزيل مبعثر، بعد أن نخرته سوسة الانقسام، وبعد أن وصلت مآلاته إلى طرق مسدودة عندما تحولت المدن والقرى الفلسطينية في الضفة الغربية إلى كانتونات منفصلة عن بعضها البعض، يمثل كل منها سجنًا قائمًا بذاته، محاطًا بالجدار من كل صوب، فيما أصبح قطاع غزة يمثل السجن الأكبر الذي يحشر في محيطه قرابة مليوني فلسطيني يقعون تحت حصار مزمن ظالم ومظلم. مأساة الشعب الفلسطيني الحقيقية في رأيي ليست في تلك الوعود والمؤامرات، ولكن في عجز القيادة الفلسطينية عن تفعيل نقاط القوى الكامنة في الشعب الفلسطيني واستخدام أوراق الضغط المتاحة لها والوضع القانوني الممتاز الذي توفره لها قرارات الشرعية الدولية، الأمر الذي يقتضي من تلك القيادة التمسك بالحق الفلسطيني الذي تنص عليه تلك القرارات بدءًا من قرار تقسيم فلسطين 181 الذي يعتبر الصيغة الأولى لحل الدولتين والقرار 194 الذي ينص على حق اللاجئين في العودة، والذي يعتبر ركن هام وأساس في الثوابت الوطنية الفلسطينية غير القابلة للتنازل أو التفريط، لأنه حق شخصي لكل فلسطيني طرد من أرضه وأرض أجداده تحت وطأة المذابح الصهيونية والتواطؤ الاستعماري، وكان الأجدر بالقيادة الفلسطينية في ذكرى الوعد التأكيد على هذا الحق ومطالبة بريطانيا بالاعتذار وتحميلها المسؤولية التاريخية والأخلاقية عن إعطاء وعد من لا يملك لمن لا يستحق، وما جرّته تلك الجريمة من معاناة وآلام مزمنة لأجيال متعاقبة من الشعب الفلسطيني.