اثناء قيامي قبل سنوات بتعبئة نموذج للحصول على خدمة أحد المعاهد الأمريكية ، استوقفني سؤال عما اذا كنت انتمي لإحدى جماعات الضغط أم لا، لم أكن حتى وقتها معتقدا بأن ثمة إمكانية لي في الانتماء الى واحدة من جماعات الضغط، او حتى المنظمات غير الحكومية، كان رصيد خبرتي بما هو متاح، وما هو مباح، وما هو ممكن، يظن- ومعه آنذاك كل الحق- أن التفكير في الانتماء مخاطرة، أما الانتماء ذاته فجريمة، تعاقب عليها قوانين بعضها مكتوب، وأكثرها مفهوم ضمنا لدى ثقافات وشعوب، اعتادت التعايش مع الغموض، بصورة قاد فيها إيثار السلامة الى التخلي عن المبادرة، بدرجة تكاد أن تكون كلية. هكذا كان حالي ، وحال أغلبنا على ما أظن، لكن ثورة تقنيات الاتصال فعلت فعلها، سواء لجهة التنوير بما هو حق وما هو ممكن، أو لجهة اعادة تعريف المحظور والمباح في ثقافاتنا، ورويداً..رويداً، عرفت بعض المجتمعات العربية، جماعات الضغط، ليس في مجال السياسة او الاقتصاد او المجتمع، وانما في ملاعب كرة القدم. بدأت معرفة العرب بجماعات الضغط في تقديري مع روابط مشجعي الاندية في مسابقات كرة القدم بالملاعب العربية،كانت تلك الجماعات تضغط على المنافس او الخصم طيلة وقت المباراة، وربما قبلها في بعض اللقاءات ذات الطابع الخاص مثل مباريات الديربي بين ناديي الأهلي والزمالك في مصر، والترجي والنجم الساحلي في تونس، والفيصلي والوحدات في الاردن. لكن روابط المشجعين في بعض تلك المجتمعات، سرعان ما استحالت الى جماعات ضغط على انديتها، لشراء لاعب بعينه او للاستغناء عن آخر، وللإطاحة بمدرب أو مدير فني والتعاقد مع آخر ...وهكذا أصبحت روابط مشجعي الأندية طرفا في حسابات القوة عند اتخاذ بعض القرارات الهامة، صحيح ان قيادات تلك الروابط ليسوا شركاء على طاولة الاجتماعات عند بحث قرار معين، لكنهم حاضرون وبشكل مؤثر- في بعض الأحيان- ضمن اعتبارات وحسابات القوة لدى اتخاذ القرار. مع الوقت تطور شكل وحجم واسلوب اداء روابط المشجعين ،حتى بدا ملهما لشباب رأى فيهم التنظيم والعمل الجماعي القادر على التأثير ولو بصورة احتفالية في اغلب الأحيان، الى ان هبت رياح الربيع العربي، حاملة معها ما اصبح يسمى ب"التراس" أهلاوي، وزملكاوي، الى ميدان التحرير بقلب القاهرة، ومنه الى سائر ساحات المواجهة طوال ما يقرب من عامين منذ اندلاع الثورة المصرية في الخامس والعشرين من يناير 2011. بحادثة استاد بورسعيد عقب مباراة في كرة القدم بين الاهلي والمصري والتي قتل خلالها اثنان وسبعون مشجعاً للنادي الاهلي أغلبهم من الشباب وبعضهم اطفال، بدا ان قصة الالتراس مع السياسة في سبيلها للصعود، فقد انتقل عمل روابط المشجعين( الاهلي المصري بصفة خاصة) من ملاعب كرة القدم الى الميادين وساحات القضاء مطالبين بالقصاص لقتلاهم. المطلب مشروع.. والقصاص العادل ليس مطلب رابطة مشجعين او اسر ضحايا فحسب، لكنه ايضا مطلب ثورة، يفترض ان من تسلموا زمام ادارة الدولة بعدها يدركون انه لن يكون بوسعهم الاضطلاع بمهامهم في الحكم ، قبل تقديم البرهان الناصع على انحيازهم الحقيقي لقيم العدالة ولأهداف الثورة، لكن للعدالة ايضا مقتضياتها، من جمع الأدلة وتحقيقها وتقييمها،على نحو كاف، لبناء يقين لدى القاضي بالادانة للمتهمين، بعد تحديدهم بكل دقة، ودون ادنى شبهة خضوع لضغوط الرأي العام. جماعة الضغط في جريمة قتل مشجعي النادي الاهلي بمباراة لكرة القدم اقيمت قبل نحو تسعة اشهر في بورسعيد، تحولت الى طاقة تأثير بالغة على القرار السياسي المصري، حتى بات صانع القرار عاجزا عن تحديد موعد بدء مسابقة الدوري العام المصري، حين اشارت حسابات القوة الى ان "التراس اهلاوي" هم من بيدهم القرار الحقيقي. ظاهرة الالتراس في كرة القدم المصرية انتقلت بعد الثورة الى قطاعات شتى، وبدا ان قوى الاسلام السياسي هى من استهوتها اللعبة، حتى رأينا التراس يدافع عن "تأسيسية الدستور" بشكلها الحالي، ولا يرى بأسا في الضغط على القضاء بالتجمهر واستعراض العضلات قبيل النطق بالحكم، نفس المشهد حاوله التراس لازم حازم، من انصار المرشح الرئاسي المستبعد حازم صلاح ابو اسماعيل، الذين حشدوا الالاف بالحافلات للتجمهر امام اللجنة العليا للانتخابات الرئاسية وقبلها امام محكمة القضاء الاداري لترويع القضاة، نفس التراس السياسة، احتشدوا في ميدان التحرير للضغط من اجل اعلان فوز مرشح رئاسي بعينه، وهدد بعضهم باللجوء الى الجهاد المسلح اذا خسر مرشحه المفضل...!! الى هنا.. تصبح ظاهرة الالتراس في السياسة المصرية كارثة تنذر بمزيد من الكوارث، حيث يجري تشكيل جماعات الضغط وفق الهوى وليس وفق الحساب، في سياق مشاعر يجري تجييشها، وليس في سياق مصالح يجرى العمل لحمايتها.. في السياق الراهن يبدو الالتراس دولة.. ويبدو قرار الدولة رهينة جرى اختطافها بمعرفة جماعات ضغط لعل ابسط اشكالها هو التراس كرة القدم.. اما اشكالها المعقدة فيجب التنبه لتأثيراتها بصفة خاصة على كل من مؤسسة القضاء، حيث تتظاهر جماعات تطالب باقالة النائب العام ولو على حساب فكرة الدولة، وعلى الجمعية التأسيسية للدستور، حيث يسعى البعض لاستخدام الحشد الجماهيري للتأثير على عملية صناعة اول دستور لمصر بعد اول ثورة شعبية في تاريخها، بينما يضغط "التراس الضبعة" لاجهاض المشروع النووي المصري.. مصر عند مفترق طرق حقيقي، فأقدم دولة في التاريخ الانساني تبدو اليوم مهددة بزحف دولة الالتراس..واذا كانت جماعات الضغط في الديموقراطيات العريقة تعمل تحت سقف القانون، فان جماعات الضغط في مصر تعمل لكسر سقف القانون.. احترسوا فسقوط السقف يهدد بقاء وطن بأكمله. [email protected]