تلقيت بالامتنان المجموعة الشعرية للشاعر الدكتور الشيخ محمد بن عبود العمودي وهي تمثل أربعة دواوين شعرية هي: سكن الليل،مُنتهى الحب،نفحات الورود،ربيع العمر،جميعها صدرت في حُلَّة قشيبة،وطباعة أنيقة تحمل أنفاس شاعر عرف قيمة الشعر فأخلص له وأعطاه من وقته وفكره العناية والاهتمام حتى أورق ثمراً مختلفاً الوانه يُبهج العين والفؤاد . ولم يكن الدكتور محمد عبود العمودي غريباً عليَّ شعره فكنت أقرؤه بين الفينة والأخرى،وكانت آخر قراءاتي له تلك القصيدة الجميلة التي نشرها بجريدة الشرق الأوسط بمناسبة عودة الأمير سلطان حفظه الله،كما سمعته في الكثير من قصائده المغنَّاة من بعض الفنانين إبتداءً : من أمال ماهر،وكاظم الساهر،ومحمد عبده وأبو بكر سالم بالفقيه،وفاطمة زيدان،وجيهان مراد وغيرهم،ولحَّن له كبار الملحنين في عالمنا العربي مثل حلمي بكر،وعمار الشريعي،وصلاح عرام، وقد رايته يقدم شعره وفنه الأدبي على استحياء شأنه شأن الشعراء الكبار الذين يحترمون أنفسهم في عالم يحترق بالفنون الهابطة التي أصمت آذاننا بما نسمعه اليوم من كلام سوقي ساقط،ورتم موسيقي هابط مملول . وحين طالعت دواويين الدكتور محمد عبود العمودي في شعره العربي الفصيح وجدته شاعراً محافظاً في شعره على القيم الموروثة،آخذاً بسنة شعراء العربية الذين تركوا لنا تراثاً شعرياً خالداً لا زالت الألسنة تلهج به،لذلك كان التأثير الخلاَّق واضحاً جلياً على شخصية الشاعر بن عبود،فقد قرأته إنساناً متعدد المواهب والإضاءات التي نوَّرت حلكة الظلام الإنساني من جوانب مختلفة،فهو رجل قد آتاه الله مالاً فلم يبخل به على أصحاب الحاجات والفقراء والمساكين،من خلال صنائع الخير والمعروف التي كان يبثها التلفزيون عن أعماله الخيرية في مواسم الحج في كلِّ عام عن طريق مؤسساته الخيرية التي توزع الوجبات على حجاج بيت الله،ومن خلال عضويته لجمعية الأيتام التي انتسبُ إليها أيضاً بالعضوية وفي عضويته لجمعية السقاية والرفادة وفي عضويته للجنة اصلاح ذات البين،وفي بره بأهله ومحبيَّه وقاصديه يداً ممدودة بالخير في كلِّ عمل إنساني . وقراته في الجانب العملي فرأيته مجاهداً في دروب الحياة،بدأ عصامياً عاملاً بجد وإخلاص لتحقيق الذات منذ حداثة عمره،ولم يضق ذرعاً بالعمل البسيط الذي مارسه حتى أصبح اليوم مدعاة فخره وبه حقق هذه النجاحات التي رفعته إلى تقدير الملوك والرؤساء والعلماء،والأدباء ونيله شهادة الدكتوراه من عدد من الجامعات الأمريكية والبريطانية،وإشادة ملكة بريطانيا بجهوده وأعماله الإنسانية والاقتصادية التي لا يُستهان بها على مستوى العالم . وها أنا ذا أقرؤه شاعراً لشعره سبحات في بحار الحب والغزل والوطنية،والرثاء فهو،إسلامي النزعة والفطرة،فمن ديوانه (نفحات الورود) . قصيدة (أرضي بلاد التُّقى) يقول فيها : أرضي ملاذ التُّقى بالجد والقيم نجدٌ حجازٌ بلاد الجود والكرمِ شرق جنوب إله الكون حافظها بالحق دعوة إبراهيم من قدم آثار جبريل أنوارٌ بتربتها وعطر خير الورىَ كالمسك في الأكم والطيب في طيبة المختار ننشقه عطراً تعالى على عطر شذاه همي يا مهبط الوحي والقرآن منهجنا يا موطن العزِّ بين الحلٍّ والحرم ومن خلال هذه الأبيات تلمس قوة العمق الديني والحس الوطني الصادق . وفي قصيدته (صروح المجد) يقول : يا دولة حازت الإعجاب في الدُّولِ أمنٌ سلامٌ وإقدامٌ بلا وجلِ قد قدّس الله في الأكوان تُربتها بالحقِّ والشَّرع والإيمان والمُثل جبريل والنور والآيات مُنزلةٌ تشفي قلوباً من الآثام والزلل بالعز تبني صروح المجد يحكمها فهدٌ سليل التُّقى يسعى بلا كلل إلى أن يقول : بوركت فهدٌ وعبدالله ساعدكم سيروا إلى المجد في عزمٍ بلا ملل سلطان يحمي رياض العز في شمم والكلُّ جند الوغى في الحادث الجلل أبناء عبدالعزيز الفذ قادتنا نحن الجنود وأنتم مشعل السبل وهو في هذه الأبيات يرتفع ويفخر بهذه القيادة الحكيمة التي جعلت المملكة في مصاف الدول المتقدمة علمياً وحضارياً. ثم نقتطف في هذا الديوان بعض زنابق الغزل الذي يُجيد فيه شاعرنا،ويذكرنا بغزليَّات مجنون ليلى وكثيِّر عزه،وعمر بن أبي ربيعة الذين نتغنى بشعرهم في عشقهم ووفائهم للمحبوب،فكانوا منهلاً عذباً يروي غلًّة الصادين للعشق والهيام والوله فهو يقول في قصيدة (يا هائماً) يا هائماً في الهوى يشكو مواجعه القلب سكناك والأعطاف مرعاكا هذي يدي في الهوى مُدَّت بلا حذرٍ فا مدد يداً في رياض الحبِّ ألقاكا الخوف داءٌ يمُيت القلب يقتله قل لي متى تعرف الإقدام دنياكا قل لي متى تكسر الأسوار تعشقني عشقاً يُثير فتُحينِي ذراعكا كن لي غطاء بليل العشق يُدفئني أكون همسك للنجوى وسلواكا كن لي حبيباً وصن ودي بلا وجل أعطيك روحي ونبض القلب مرعاكا في هذه الأبيات تلمس براعة الشاعر في ترجمة الإنفعال والتأثير الذي يصور الحالة الشعورية التي تتمكن من القلب الواله ليأتي شعره صادقاً مطبوعاً لا اثر للصَّنعة والتَّكلف فيه وتجد أن هناك تضميناً للحكمة وخصوصاً في البيت الثالث من هذه الأبيات . وفي قصيدة (إبحار) يقول : أبحرت في بحر عميق القاع جبارٌ يهول أحتاج حباً خالداً يبقى بقلبي لا يزول وأُريد شمساً لاتخاف الليل لا تخشى الأفول أحتاج بدراً نوره الفضِّي يلهو بالعقول فالحب لا يقوى على الإبحار في بحر ٍجهول والشمس لا تقوى على الإشراق في كل الفصول يا وجه بدرٍ حائرٍ يلهو به أهل الفضول حُبيِّ أنا كالسيف لا تُّرضيه أنصاف الحلول وفي هذه الأبيات تجد الروح الفلسفيّة في توظيف لغة النجوى بينه وبين الحبيب حتى أنه يطلب حباً مثالياً،ليُعبِّر عن امتزاج الروحين في روح وجسد واحد لتحقيق الامتزاج الروحي بينه وبين المحبوب وتحسَّ طغيان النزعة الرومنسية كما هي في معظم قصائده. ومن ديوانه (ربيع العمر) يقول في قصيدته (لا تخنِّى) : أنا لن أخون هواك مهما زدت في هجر وضنِ فأنا الذي حفظ المروءة والعهود عن التّدنَّي فإذا نويت الغدر بي يوماً يردّ الله عني لعبت بنا الدنيا ونالت منك في ليلٍ ومني ما خنت عهداً فاسأل الأزمان والأكوان إنِّي أمشي على درب الرضى درب الوفيِّ المطمئن ما بيننا كان الهوى والحبُّ في ليل التّمني والنجم في كبد السماء يضيءُ تهيامي وفني والليل فيه السرُّ الوانٌ وأنفاس تغني ما بيننا عهدٌ يُوثٍّقُ للمحبة لا التّجني إن غيرت دنياك أنماط الورى ما خاب ظني فارجع إليَّ إذن وعاهدني بأنك لا تخُنِّي قصيدة غزلية جميلة الأداء والبناء تؤكد على خبرة الشاعر وقدرته على استعمال القوافي المغناة لتؤسِّس تناغماً بين اللغة الشاعرة وعمق الإحساس الذي يترك صداه في النفس ليعبر عن الصدق الفني. وهو في هذه القصيدة وما سبقها عمد إلى التدوير وهذا فيه صعوبة إلاَّ على الشاعر المتمكن مثل شاعرنا . ومن ديوانه (سكن الليل) نُعرج على قصيدته (غَطّى فلسطين الدَّم) غطى فلسطين الدّمُ وبها المساجد تُهدمُ إنَّ المروءة جُردَّت إن البراءة تُعدم غدت النساء قنابلا نحو الوغى تتقدّم الطفل يرضع حسرة وعلى الشهادة يُفطم شعبٌ يُبادُ مُحاصراً بالقاذفات يُحطَّم تطأُ الفّتى دبابةٌ وسلاح أُمتنا فم يصوِّر في هذه الأبيات المأساة الفلسطينية تصويراً دقيقاً في تجسيد الألم والظلم والطغيان الإسرائيلي استشعاراً بعمق المصائب التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني فأنظر إليه في البيت الثالث وهو يصف النساء بأنهن أصبحن قنابل فلم يعد يُخيفهن الموت والتدمير الإسرائيلي،والبيت الرابع فيه صورة جميلة ومبدعة حين يرضع الطفل لبن الحسرة،ويكون فطامه على الشهادة . ومن نفس الديوان قصيدة بعنوان (أمَّة الإيمان )منها: أمة الإيمان والأدب تصنع الأمجاد في الحقبِ ربُّها الرحمن قد خلقت دينها الإسلام بالنسب وكتاب الله حافظها بثبات الحق لا الرِّيب مكة الإسلام قبلتنا قمَّةٌ تعلو على الرُّتَب وفي هذه الأبيات نقرأ اعتزازه بالأُمة الإسلامية وفخره بمكه قبلة الإسلام ليؤكد صدق الانتماء . وفي قصيدة بعنوان (علام الهجر )يقول عشق القلب فهاما واقتفى عطر النّدامى ينشق العطر فيدنو حيثما الحبُّ أقاما هاله النُّور فأرخى جفن عينيه احتشاما نور شمسٍ أم سنا بدر علا ثم استقاما أم شعاع الفجر يجلو عن ليالينا الركاما وفي هذه الأبيات ترى غزل الشاعر العفيف الذي لا يدعو إلى التفسُّخ أو الابتذال أو التَّهتك ومن ديوانه (مُنتهى الحب )قصيدة بعنوان الديوان منتهى الحبُّ فطولي ياليالي فأنا أحيا على رجع الخيال حالم تطفو حروفي كالندى فوق أوراق الخزامى والدوالي مرَّة ضيَّعت من أهوى سدى يا لعمري بين همٍّ وارتحال وهنا كأنَّ الشاعر يُلمِّح إلى إسم المحبوبه وهي (منتهى) برمزيّة ذكيَّة وتورية مُلفتة . وفي قصيدة بعنوان ( نور الحياة ) يقول عن فقده لإمه رحمها الله وأموات المسلمين : أقْفَرْتِ يا دُنيا إذاً وبدا لي العيش مِحن من أجل من فارقتها أُخفي الأنين وبي شجن نور الحياة وشمعتي لما غفت والليل جن لله عادت روحها قد ضاق بالروح البدن وقد اطمأنت فارتقت من لاذ بالله اَطمأن ما كلّ أُمٍّ مثلها حتى أُعزَّى بعد أن وآريتُ طُهراً في الثرى ولَفَفْتُ نوراً في الكفن في رثائه لأُمه تظهر علامات الوجد والألم والحزن جليَّه في بُكائية خافتة لقلب أدماه الفقد لأحب إنسان وأعزه على الأرض ومن غير الأم وهي الحضن الدافيء والقلب الحنون ؟ التي تتوفَّر على المثالية العليا في التضحية والحب . لقد كانت هذه الأبيات بعض تراجيع الإحساس الشعري الذي انطلق من انفعالات العقل الملهم للشاعر الدكتور محمد عبود العمودي،رسمه على بساط الكلمات ليعبر به إلى مسافات العقول والبصائر شعراً عربياً يطوف بنا في رحاب الوطنية والغزل والرثاء والمديح,نُقدِّمه بروح تحمل رؤية الإعجاب لا رؤية النقد والناقد فما إلى هذا عنيت،ولست ممن يملكون أدوات النقد الأدبي فهذا له أربابه،ولكني أُبدي دائماً وابداً تقديري للشعر الفصيح وأتذوقه،وأقدمه للقارئ الكريم ليعيش بإحساسه هذه الانفعالات الشعرية،ونكون بذلك قد أدّينا واجباً للشعر والشاعر الذي سكب هذه المزون الشعرية من فكره والهامه لتكون إضافة إلى ديوان الشعر العربي الخالد،وهي تحية لشاعرٍ نكن له التقدير بما أمتعنا به من جميل الشعر وكريم الإهداء،وإلى موعد مع زنابق شعرية أخرى ننتظر فيها ما تحمله إلينا قريحة شاعرنا الواعدة بالشعر العربي الفصيح ليكون إضافة إلى ديوان العرب .