** عند الحديث عن شخصيّة حبيب محمود أحمد، الذي يشرفني أبناؤه بالكتابة عنه، لابد أن أستعيد من الذّاكرة مشاهد وحوادث تمتد إلى ما يقرب إلى نصف قرن من الزمن وأكثر؛ فلقد عرفت هذا الرجل عندما التحقت بمدرسة العلوم الشرعيّة في المدينة المنوّرة في نهاية السبعينيات الهجريّة - الخمسينيات الميلادية-، وكانت العلوم الشرعيّة تماثل من حيث الشّهرة العلميّة مدارس الفلاح التي أنشأها آل زينل في كلٍّ من مكّة المكرمة وجدّة، وكانت المدّة الزمنية بين إنشاء كلٍّ من الفلاح والعلوم الشرعيّة تقارب العقد من الزمن؛ حيث أسّست الفلاح عام 1330ه، بينما أسّست العلوم الشرعية عام 1340ه. ** لقد كان السيّد حبيب محمود أحمد مدير المدرسة بعد وفاة مؤسّسها عمّه المرحوم السيّد أحمد الفيض أبادي. وكانت معرفتي لهذه الشخصيّة أيضًا عن طريق الصداقة التي كانت تربط بينه وبين والدي رحمه الله. وكانت دار السيّد حبيب تقع في منتصف شارع العنبريّة من جهة القادم من مكّة المكرمة، وكانت دارًا متميزة في بنائها، وتقابل دور آل جعفر، وآل عامر الواقعة على مدخل الهاشميّة، نسبة إلى آل هاشم. ** كانت دار السيد حبيب موئلاً للضيوف والزّائرين القادمين لبلد الرّسول صلّى الله عليه وسلّم، كما كان يقصدها في معظم أيام الأسبوع جمعٌ كبيرٌ من أهالي المدينة المنوّرة، وظلّ السيّد حبيب يستقبل الضّيوف في داره إلى آخر أيّام حياته، التي امتدّت لأكثر من ثمانين عامًا، وكان خلالها شخصيّة فذّة، شاركت في بناء الوطن، فلقد دخل هذا الرجل في بداية حياته العمليّة المجلس الإداري، الذي كانت له أهمّية كبيرة في اتّخاذ القرارات المتّصلة بشؤون البلدة الطّاهرة، ويبدو أنّه أفاد في مجالسته بجيل سبقه من رجالات المدينة المنوّرة، ثمّ أُسندت إليه كثير من المهام، وخصوصًا فيما يتصل بإشرافه على شؤون الحرم الشّريف، وكذلك رئاسته لمجلس الأوقاف الأعلى، إضافة إلى مهام أخرى ساهم من خلالها في خدمة أهل الجوار الطّاهر. ** كان السيّد حبيب شغوفًا بالكتاب؛ المخطوط منه والمطبوع، ولهذا أنشأ مكتبة تجمع ذخائر الكتب ونفائسها، وهي المكتبة التي تقوم اليوم شاهدًا حيًّا على حبّه للعلم والمعرفة، وذلك يوضح مدى تغلغل الجانب العلمي والفكري والأدبي في شخصيّته منذ نعومة أظفاره؛ حيث نشأ في أسرة علم ومعرفة. ** عُرف عن هذا الإنسان سماحته باتساع صدره بما يقوله الآخرون، إلى الحد الذي يصل أحيانًا إلى أنّه يسمع الكلمة النابية من أحدهم فلا يلتفت إليها؛ بل يقابلها بابتسامة تجعل الآخرين يقرّون له بالصّبر والمثابرة وتقبّل الرّأي الآخر مهما كان عنيفًا، كما عرف عنه احترامه لكبار السنِّ عندما يقدمون إلى داره، كما يحظى الصّغار من شباب طيبة الطيبة برعايته وعطفه وحدبه عليهم، وليس له من هدف وراء ذلك سوى أن يشعرهم بمنزلتهم الاجتماعيّة، وبدورهم في بناء الوطن. كما كان حريصًا على زيارة من يكبروه سنًّا من رجالات المدينة والسّؤال عنهم. ** وقد أخبرني المرحوم الشيخ جعفر بن إبراهيم فقيه، الذي كان أحد من رجالات المدينة في الحقبة الماضية، أنّ أبا أحمد كان كثير السّؤال عنه، وكان بمنزلة الأب الرّوحي، كما كان على صلة بالسيّدين الكريمين عبيد وأمين مدني، والسيّد مصطفى عطّار، والشيخ عبدالعزيز الخريجي، والشيخ عبدالرحمن الحصين، والشيخ عبدالحميد عبّاس، والشيخ حلّيت بن مسلم، والشيخ إبراهيم غلام، والسيّد أديب صقر، والشيخ عمر بري وغيرهم، وهذا يوضح الجانب الاجتماعي الذي كان سمة بارزة في شخصيّة هذا الإنسان. ** لعلّي أتذكر موقفًا إنسانيًّا له من مواقف عدّة، فلقد توفي أحد سكّان العنبريّة، وكان من عامّة النّاس، فلّما سمع بوفاته خرج مع جنازته، وشارك أهله مصابهم، وخفّف عنهم بكلماته الطيبة الصّادقة ما أصاب نفوسهم من لوعة الفراق على فقيدهم. وهناك أمثلة كثيرة يمكن أن تضع أيدينا على هذه الشخصيّة، التي ظلّت محورًا لحياة مليئة بالعلم والمعرفة والنّشاط والحيويّة، وضربت أمثلة رائعة في الحبّ والتّسامح والوداد مع شخصيّات المجتمع المدني على مدى أكثر من ستّين عامًا. ** لقد رحل حبيب عن دنيانا هذه، وبقيت العلوم الشرعيّة موئلا للعلم والمعرفة في البلدة الطّاهرة، وشاهدًا على ما قدّمه حبيب محمود أحمد وآباؤه وأعمامه من خدمة للعلم والمعرفة والفكر والأدب، وذلك لعمري ما تصبو إليه النّفوس، وتتطلع إليه الهمم، وتشرئب إليه الأعناق. * المقال مقتطع من مقدمة لكتاب يصدر قريبًا بإذن الله عن هذا الرّائد رحمه الله.