في هذه اللحظة المتجددة بالازدهار والفخار، المتوهجة بعبقرية الإنسان والمكان والزمان، نتوجه إلى المولى -جل وعلا- بالشكر والحمد والعرفان، على ما خصنا به من فضل بين الأمم، وعلى ما وفقنا إليه من منهج وعمل، لخير الدنيا والآخرة. وإذ نحتفي اليوم بيومنا الوطني، وننتخي بوطن عزيز القدر، مرفوع الهامة بين الأمم، يجدر بنا أن نترحم على أولئك الأبطال العظام، الذين شيدوا هذا الكيان، وأسسوا أول وحدة عربية، رفعوا عليها راية التوحيد، وحكموها بشريعة الإسلام. وأن نذكر بالتقدير كل الذين تعاقبوا بعدهم، وتوافروا على تطوير هذا الكيان، في كل الأزمنة والمواقع، حتى وصلنا -بحمد الله وتوفيقه- إلى ما وصلنا إليه الآن في مسيرة راشدة مباركة، يحدوها منهج (الوسط العد) الذي أراده الشارع الحكيم -جل وعلا- من شريعة الإسلام، والتي اعتمدها الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن -طيب الله ثراه- دستورًا وحيدًا لدولته، ومرجعية حاكمة لكل أنظمتها. وإذا كان الجيل الحاضر يعرف موقعنا الحالي بين الأمم والحالة الحضارية التي نعيشها، فإن الواقف منهم على مشهد التاريخ قبل ما لا يزيد عن القرن الواحد من الزمن، سوف تصدمه حالة الصراع القبلي، والفوضى، والفزع والشتات، وغياب الأمن والأمان، وانتشار عصابات السلب والنهب، في ربوع هذه البلاد، حتى لم يسلم من شرور هذه الحال ضيوف الرحمن. وكم أرّق هذا المشهد (الشاب عبدالعزيز) في مغتربه، وكم أقض مضجعه، أن يرى الوطن قد تبدلت أحواله على هذا النحو المأساوي المفزع. وفي لحظة تاريخية فارقة، طفح به الكيل، وبلغ السيل الزبى، فقرر أن يقتحم الموقف، ويواجهه بجرأة وشجاعة نادرة، وصفها بعض المراقبين -آنذاك- ب»يا لها من مجازفة»! ذلك أن المقدرات المتاحة له، لم تكن مكافئة -على أي نحو- لحجم المواجهة، خاصة في ذاك الظرف التاريخي، حيث توجد، وتتصارع دول من الشرق والغرب مع العثمانيين على المصالح في المنطقة، وبالقرب من هذه البلاد. لكنهم لم يعرفوا (عبدالعزيز) على حقيقته، ونشأته، وتربيته التي صنعت منه رجلاً استثنائيًّا بكل المقاييس، يسيطر الإيمان على فكره وعمله، ولا يعرف قلبه الجسور طعم الوهن، ثقة منه بربه، وهو يؤمن بنصر الله لعباده فيقول: «إن أعد المسلمون والعرب آلة واحدة من آلات الحرب، أعد لهم أعداؤهم مئات وألوفا، ولكن قوة واحدة إذا أعدها المسلمون والعرب، لا يمكن لأعدائهم أن يأتوا بمثلها، وهي إيمانهم بالله، وثقتهم به، إنها القوة التي لا قبل لأحد بها. ولأنه كان على يقين بأنه لا يسعى لاسترداد ملك، بقدر ما يسعى للخروج في سبيل الله، لإصلاح ما فسد والعودة بالبلاد إلى جادّة الدين، وعين الصواب والأمن والأمان، لم يأبه (عبدالعزيز) بتلك المحاذير، واتخذ القرار. خرج الرجل المغوار على رأس أربعين من رجاله المؤمنين بما آمن به قائدهم، وليس معهم سوى بضع بنادق قديمة، وحفنة من المال.. لكن القلوب العامرة بالإيمان نجحت -بنصر الله- في فتح الرياض. وبدأت ملحمة التوحيد الكبرى التي استغرقت جل عمر المؤسس ورفاقه، ومن انضم إلى مسيرتهم الراشدة.. حتى استقر الوضع، وبدأت مرحلة البناء. غنيت لحنك ياوطن في عرضة المجد العظيم كل البيارق غطرفت.. عبدالعزيز يقودها أشجاه في الغربة شجن والحسم بالرأي الحسيم حر شهر من ماكره.. والدار عاد سعودها وثق على صدر الزمن قصة بها شعبه يهيم فخار وأمجاد العرب.. تزهي جميع بنودها أهل أربعين نوخن في تالي الليل البهيم تسابقوا سور الرياض.. الموت فوق عضودها قوم إلى ثار الدخن عدوانهم راحوا هشيم إذا التفت عبدالعزيز .. بالموت صاح جنودها بالحرب سيفه ما وهن حتى يورده الخصيم هوماته أسرج خيلها.. كل يعد عدودها أمن ميادين الفتن بالسيف والذكر الحكيم وبعزمه اللي ما يلين.. مكن جميع حدودها وبعدما وحّد الأرجاء، انطلق الملك المؤسس لتنمية البلاد، والتمهيد لعصرنة المجتمع، فبنى الهجر، ووطن البدو وحفر الآبار، ونشر المعلمين والقضاة والدعاة، وفتح المدارس، وأسس هيكل الإدارة، وأدخل الآلة: السيارة - الطائرة - القطار - البرقيات - والراديو... إلخ. حوارات وطنية وحين عارضه أصحاب الفكر المتطرف، احتكم الملك عبدالعزيز إلى حوارات وطنية غطت أرجاء البلاد، فانتصرت لما رآه، وحين واجهه المعارضون بعدها بالسلاح رد عليهم بالمثل، وفرض التطوير والتحديث، رافضًا القعود بالمجتمع والجمود بأفكاره. وعلى نهج المؤسس سار أبناؤه من بعده، يبني كل منهم على ما بنى سابقه، ويضيف بضمانة منهج الاعتدال السعودي، حتى وصلت البلاد إلى عهد خادم الحرمين الشريفين الملك المطور، والمبادر عبدالله بن عبدالعزيز -حفظه الله- الذي تعيش فيه البلاد نقلة حضارية نوعية يشهد بها القاصي والداني، والشواهد عليها أكثر من أن تُحصى، من أهمها صمود الاقتصاد السعودي في الأزمات العالمية، ودخول المملكة نادي الدول العشرين، وثقلها السياسي المتعاظم بحكمة القيادة وثبات سياساتها، وتطوير التعليم وزخم الابتعاث، والمشروعات الضخمة للحرمين الشريفين والمشاعر، إلى غير ذلك ممّا تراه كل عين منصفة. على أن مشروعنا التنموي الوطني الجسور، لم يسلم -طوال مسيرته- من تحالف عدائي (عجيب) بين ثلة الغاوين الخارجين من أبناء الوطن، ممثلاً في موجات الإرهاب والتكفير، والقتل، والتدمير، التي لفظت رمقها الأخير، بضبط خلية في كل من الرياضوجدة مؤخرًا -بفضل الله- ثم بيقظة قواتنا الأمنية الباسلة واستباقتها العبقرية. وبين أعداء الخارج -القريب والبعيد على السواء- الذين لا يروق لهم ما نحن فيه من الأمن والرخاء، والتطوير والبناء في عالم مضطرب مأزوم، ولا يطمئنهم قطار التنمية السعودي منطلقًا بالسرعة الفائقة نحو العالم الأول. وعلى رغم الحاقدين في الخارج، والغاوين والمغرر بهم في الداخل، استطاعت بلادنا أن تشق طريقها إلى العصر بفضل «منهج الاعتدال السعودي» الذي أسس له الملك عبدالعزيز، والذي أتاح لهذه المملكة أن تقدم للعالم النموذج الإسلامي المطور، الذي يوازن بين الأصالة والمعاصرة، ولا يحرم أمة الإسلام مواكبة العالم المتقدم. وفي غمرة الفرحة، التي نعيشها بهذا العود الحميد لهذه المناسبة الوطنية العزيزة على قلوبنا، علينا جميعًا أن نواصل تحسين نسيجنا المجتمعي المكين والواعي، وهذا التلاحم الفريد بين القيادة والمسؤول والمواطن، الذي يشهد بهما العالم، وأن نتصدى لأي محاولات للخروج -في أي اتجاه- عن «منهج الاعتدال السعودي» الذي قامت عليه بلادنا، ونهضت في أمان، وبفضله استطاعت أن تحرر موقعها المميّز في صدارة المشهد العالمي. وبهذا يتجدد احتفالنا بهذه المناسبة، مواكبًا لاحتفالنا بالمزيد من مشروعات التطوير والتحديث والإنجاز. حفظ الله هذا الوطن العظيم، وقائده المظفر، وسمو ولي عهده الأمين. ودامت راية العز مرفوعة.