تتكرر الإساءات على النبي الكريم -عليه الصلاة والسلام- ولا مفر من ردات فعل مختلفة ومتباينة، إلا أن تطور ردات الفعل إلى سلوكيات عنيفة ومتطرفة لاقى استنكارًا واسعًا كما لاقى تبريرًا لدى البعض، لكننا نطرح تساؤلات مشروعة... فإلى أي مدى يمكن أن تقودنا ردات الفعل هذه؟ وما البدائل المطروحة للرد على الإساءات المتكررة؟ وقبل ذلك ما تفسير تلك الإساءات ومقاصدها؟ الرسالة استطلعت آراء عدد من المهتمين والخبراء في سياق الاستطلاع التالي... في البدء يشير د.حامد الرفاعي -رئيس المنتدى الإسلامي العالمي للحوار- أن هذه الاعتداءات هي اعتداءات سياسية وليست دينية وأن وراءها جهات معينة تفتعل أوضاعًا محددة وتوظفها سياسيًا للتأثير على علاقات العرب والمسلمين بغيرهم، ويعبر الرفاعي بأن مكمن المشكلة هو في تعلق الغرب بحرية التعبير والتي خضنا فيها حوارات مطولة معهم -كما يقول-؛ فهم يخلطون بين حرية التعبير وحرية التفكير، ويفسر الرفاعي ذلك بأن الإنسان حر في تفكيره حرية مطلقة لكن حرية التعبير لا يمكن أن تكون مطلقة لأن حرية التعبير مرتبطة بمن تعبر له أو تعبر عنه؛ لذلك لابد أن تكون منضبطة بضوابط أخلاقية ومصلحية وسياسية واجتماعية. ويضيف أن في أمريكا والغرب عمومًا لو عبر أحدهم تعبيرًا يضر بمصالحهم لثاروا عليه قطعًا، لكن الرفاعي يؤكد أن من حق أي إنسان أن يغضب إذا أسيء إليه ونحن من حقنا أن نغضب بهذه الإساءة وأن يشتد غضبنا لكن لا ينبغي أن نتجاوز قيمنا وعاداتنا وأخلاقنا حتى لا نكون معتدين أيضًا. كما لفت الرفاعي إلى إشكالية أخرى بيننا وبين الغرب وهي في تحديد المصطلحات؛ فهم لديهم مصطلح «حرية التعبير» لكن ما هو مفهوم «حرية التعبير»؟ تمامًا مثل قضية الإرهاب فما يرونه إرهابًا نحن لا نراه كذلك. ويؤكد الرفاعي أنه في لقاءاتنا ومؤتمراتنا مع الفاتيكان أصدرنا بيانات تشدد على أن كرامة الإنسان وصونها حيًا وميتًا من الله تعالى في كل الأديان والشرائع، وأن المسألة نظريًا مقررة في مواثيق الأممالمتحدة والقانون الدولي لكن المشكلة أن (القانون بيد القاضي) كما يقولون ولم تجد جدية في الأخذ بها. كما لفت رئيس المنتدى الإسلامي العالمي للحوار أن المؤسسات الكنسية والمسيحية يستنكرون مثل هذه الإساءات بل ويعانون منها هم أيضًا لكنهم أكثر حضارية منا في التعبير عن غضبهم، فنحن -كما يقول- عقولنا مرتبطة بسواعدنا، وسواعدنا تتحرك أكثر من عقولنا؛ وإلا ما علاقة ذلك السفير المقتول بشخص أرعن أساء إلى النبي؟ مع أن السفراء عندنا ذوو حصانة قدسية منذ أربعة عشر قرنًا، كما أنهم يتعاملون وفق قاعدة جميلة نحتوها منذ زمن وهي: (حريتك تنتهي حيث تبدأ حرية الآخر) ولها سند شرعي لدينا في (قواعد التملك). وأضاف أن مثل هذه الاعتداءات تشعل فتنة بين الدول والمصالح المتعددة بينها فأين هذا كله من قاعدة (ولا تزر وازرة وزر أخرى). من جانبه أرجع د.خالد بن عبدالله القاسم -المشرف على كرسي الأمير سلطان بن عبدالعزيز للدراسات الإسلامية- سبب هذه الاعتداءات إلى انتشار الإسلام ودعوة الخير مما أثار أحقاد بعض الناس؛ لذا علينا أن نسير في مسيرتنا الهادئة والحكيمة بالدعوة إلى الله بالقدوة وألا يشغلنا هذا عن رسالتنا، وأكد أن ردات فعلنا لا بد أن تكون نابعة من رسالتنا فلا نعتدي على أحد ولا نظلم لأنهم هم يريدون ذلك. وأكد ما ذهب إليه الرفاعي من أن هناك من يريد أن يثير العداوة بيننا وبين الغرب؛ فليس كل الغرب أعداء، كما أن النصارى ليسوا كلهم أعداء فكثير منهم يتفهمون دعوة الإسلام. وطالب القاسم بحقوق الأديان كما هي موجودة حقوق الإنسان، حتى لا تتكرر مثل هذه الاعتداءات، كما انتقد انشغال إعلامنا وعدم قدرته على الرد بمثله وطالب بأن يكون هناك فيلم على غرار فيلم عمر يبين حقيقة الإسلام والرسالة المحمدية. لكن هل يمكن تجاهل مثل هذه الإساءات؟ يرد القاسم بأن هذه القضية تحتاج إلى دراسة فهل الأفضل تجاهلها حتى لا نعرف الناس بها ونميتها في وقتها؟ أم أن الإساءة شائعة فتحتاج إلى ردود فعل من العلماء ومن الدول وغيرهم أو ربما يحتاج الأمر إلى محاكمات ومسيرات سلمية منظمة حتى لا يكون الأمر فوضى. وعن تأجيج العواطف تجاه مثل هذه القضايا قال القاسم: «لا بأس من استثمار هذه العواطف الحميدة تجاه نبينا وديننا لكن لا ننجر إلى عواطف سلبية تأكل الأخضر واليابس». وعما يمكن فعله إعلاميًا نعى الإعلامي عبدالله هضبان الحارثي القنوات الإعلامية جميعها لعدم قدرتها على الاجتماع تحت مظلة واحدة لتخرج بأي نتيجة تجاه قضايا العرب والمسلمين وطالب الحارثي بميثاق شرف إعلامي إسلامي ذي مبادئ إسلامية واضحة ننضوي جميعًا تحته وندافع عن ديننا وقضايانا من خلاله، كما طالب الحارثي بميثاق شرف سياسي يدعم ميثاق الشرف الإعلامي لكي يحجم ردود الفعل الغوغائية التي لا تخدم الإسلام ولا المسلمين، كما دعا الحارثي الى ألا نسمح للغوغائية بالظهور على القنوات الإسلامية حتى لا نبدو أمام العالم وكأننا عبثيون وفوضويون، ولفت الحارثي في ختام مداخلته ل (الرسالة) الى أن عامل توقيت الإساءة غير بريء ويشير إلى أن هناك من يخطط لمثل هذه الأعمال. وفي قراءته لاشتداد ردات الفعل عن الفيلم المسيء للنبي عليه الصلاة والسلام رغم تكرر الإساءات للأنبياء منذ القدم يشير المحمود الى أن الذي تغير هذه المرة ليس فقط التحولات المهمة التي شهدتها بيئة الإعلام والاتصال وسرعة انتشار المعلومة على جماهير متعددة وإنما العامل الأهم في الموضوع من وجهة نظر د.عبدالله ناصر المحمود- أستاذ الإعلام بجامعة الإمام- هو التحولات الثقافية والفكرية والسياسية التي شهدها المجتمع العربي في السنوات القليلة الماضية، وهو ما نقل ردات الفعل وصخبها من المؤسسات الرسمية إلى الجماهير والقواعد الشعبية، والتي أصبح الشعب العربي خاصة يشعر أكثر من أي وقت مضى بأنه قادر على إحداث تغيير ما؛ لذلك يعتقد المحمود أن الشعوب التي آمنت بقدرتها على الإطاحة بأنظمة مستبدة ومتجذرة هي ذاتها اليوم التي تؤمن بقدرتها على الوقوف في وجه كل معتد بصرف النظر عن النتائج والعقبات. أما تطور ردات الفعل إلى نتائج غير مسؤولة فهي في نظر المحمود نتاج الهياج الاجتماع الشعبي الجماهيري غير المنضبط بأي منظومة سياسية أو مؤسسية، وفي وسط هذا الهياج من المتوقع أن تحصل ردات الفعل العنيفة لأنه لا يمكن أن نتوقع من الجماهير حين تثور أن تتصرف بحكمة وعقلانية لأنها تفتقد إلى أبسط أدوات التعقل وهي الهرمية المنطقية في اتخاذ القرار، وألمح أستاذ الإعلام إلى ما يسمى في علم الاتصال ب(عقلية القطيع) أو (عقلية الجماهير) التي تنعتق من كثير من الالتزامات الأخلاقية أو القانونية والتي ينتج عنها تصرفات ليس لها حد و لا قيد، كما دعا المجتمع الغربي والعربي أن يعي جيدًا أن المرحلة الراهنة والمستقبلة خلال ما لا يقل عن عقدين أو ثلاثة ستسيطر عليها ردود الفعل الجماهيرية الشعبية التي لن تكون خاضعة لأي معايير كانت تسود سابقًا في فرض الصيانة الدولية أو القانونية. وعن سن قوانين دولية قلل المحمود من أهمية هذا الأمر لأن القضية من وجهة نظره ليست مرتبطة بقانون دولي أو دعوة إلى سن مثل هذه القوانين أو مواثيق شرف وإنما المطلوب قرار أممي حازم لا يسمح بالإساءة إلى الرموز الدينية مهما حصل. واقترح بأن تتشكل هيئات فاعلة وقادرة على متابعة مثل هذه السلوكيات المشينة واتخاذ قرارات أممية مسؤولة تقنع الشعوب العربية والإسلامية وبالتالي تنأى بالجماهير أن يتقلدوا مهمة الدفاع عن الرموز، وطالب المحمود الحكومات العربية بتشكيل هيئات حقيقية وليست صورية تواجه مثل هذه الإساءات إذا حصلت في المستقبل -وهي ستحصل لأنها سنة من سنن التدافع- وإذا ما كرر أحد الإساءة لرمز أو للإسلام فتكون البلاد الإسلامية بتلك الهيئات جاهزة للرد على مثل هذه الإساءات وأن تتخذ قرارًا في وقت سريع جدًا وبحجم المسؤولية تقنع بها الجماهير الإسلامية بأن هذه المؤسسات الأممية قادرة على حسم الموضوع. وعن دور الإعلام العربي والإسلامي قال المحمود: إن إعلامنا في مأزق لأنه لا يستند في قضاياه إلى مرجعية إسلامية كمجمع الفقه الإسلامي أو مشابهه، وأضاف أن الغرب يقتنص ثغرات لدينا ويهاجمنا من خلالها لأن الإعلام العربي أو الإسلامي بكل وسائل اتصاله لم يستطع أن يوحد وجهة النظر في مثل تلك القضايا التي ما زالت الرؤية فيها ملتبسة وغير واضحة، ويضرب المحمود مثالًا على ذلك بقضية التعامل مع المرأة وزواج النبي عليه الصلاة والسلام من صغيرة السن، ويضيف المحمود أن هذه القضية بالذات فيها جدل كبير فنحن لم نحررها وتحريرها يكون بأمرين مهمين جدًا إما أن نثبت هذا الأمر وأن تأتي مجامع فقهية ومؤسسات متخصصة وتثبت هذا وتفند الشبهات حول ذلك وتربطه مثلًا بثقافة العرب الذين يزوجون البنات صغارًا وأن الرسول لم يكن بذلك الوحيد الذي يتزوج من صغيرة السن بل كل العرب يفعلون ذلك، حتى إذا جاءت مؤسسة إعلامية ترد فتتكئ على مثل هذا التأصيل والتحرير الشرعي ويكون هذا رأينا الجمعي، وكذلك قضية التعدد في الزواج لابد من أن تحرر وتكون فيها رؤية واضحة في فعاليتنا الثقافية تجاه هذه القضية وغيرها، ويؤكد المحمود أنه إذا لم نستطع من داخل العالم الإسلامي أن نحرر هذه القضايا ونوضحها لنخبنا ومثقفينا ووسائل إعلامنا لن نستطيع أن نرد، فلا بد أن نكون أقوى وأكثر صلابة من الداخل حتى نرد على الآخرين، أما مجرد الردود والاجتهادات الفردية فستوجد لدينا الكثير من الآراء من أشدها تطرفًا إلى أكثرها انفتاحًا. كما ألمح المحمود إلى أننا بحاجة إلى تحرير تلك الزوايا الغامضة والملتبسة وإظهارها أكثر من إظهار محاسن الرسول عليه الصلاة والسلام لأن الغرب لا ينكر تلك المحاسن وإنما يهاجم في بعض المواضيع المحددة. وأكد المحمود أن فشل المؤسسات التربوية والشرعية والتشريعية في التصدي لمثل هذه الهجمات هو سبب فشل الإعلام لأن الإعلام لا يمكن أن يعبر عن شيء غير موجود. ودعا تلك المؤسسات إلى عدم التنصل من مسؤولياتها وتعليق فشلها على الإعلام وحده.