في كل عام في شهر رمضان يستمر الخلاف حول قضايا الدراما المرتبطة بالدين، هذه السنة ارتبط الخلاف بمسلسل الفاروق عمر بن الخطاب حيث كثرت المطالبات والتهديدات التي تنادي بتحريم المسلسل ومنع عرضه. تلك المعارضة التي ازدادت قبل بداية رمضان ما هي إلا امتداد لذلك الجدل الحاد الذي صاحب تصوير فيلم «الرسالة» للمخرج الراحل مصطفى العقاد في السبعينيات الميلادية ولم يخلُ أيضًا من التحريم والمنع، وما كل ذلك إلا بسبب تجسيد الشخصيات الإسلامية دراميًا وتحديدًا الصحابة، وحجتهم في ذلك أن الممثلين ليسوا على صفاء ونقاء الصحابة ومكانتهم فلا يجوز تجسيد أدوارهم، وتلك حجة غير منطقية فالمشاهد يعلم أن الممثل يتلبس دورًا لشخصية تاريخية معينة سوف يخرج منه بعد انتهاء المشهد التمثيلي وليس من العقل أن يربط بين أفعال ذلك الممثل في حياته العامة وصفات تلك الشخصية التي مثلها، مع علمنا أننا جميعًا لسنا بصفاء ونقاء الصحابة الكرام. بعض المعارضين اتخذوا من الممانعة فرصة للظهور والبروز، فركبوا الموجة من غير علم ولم يقبلوا حتى النقاش والحوار، وكما يقول الشيخ عادل الكلباني إمام المسجد الحرم سابقًا في صحيفة المدينة أن أكثر أولئك المعارضين يعرف عن رينالدو وميسي ما لا يعرف ربعه عن عمر رضي الله عنه، ولو تسأله كم كانت مدة خلافة عمر ومتى تولاها؟ لا يعرف، بل أن أكثرهم.. كما يذكر الشيخ الكلباني.. لم يعرف أن عاتكة هي زوجة عمر إلا من خلال جملة المعارضات التي سبقت عرض المسلسل. ومسلسل عمر لم يخرج باجتهاد شخصي، فقد تمت مراجعته وإجازته بمعرفة أسماء دينية معتدلة ولها ثقلها عند جموع المسلمين، أحد هؤلاء هو الداعية الدكتور سلمان العودة الذي صرح لصحيفة عكاظ أن العمل لو ظهر من دون شخصيات سيكون هزيلاً. الدراما الفنية تلعب دورًا مهمًا في قولبة المفاهيم وتسهم في جعل التاريخ الموثق حيًا ومعايشًا من خلال تقديم أجزاء متعددة منه في قالب درامي عالي الجودة يعتمد على حيوية الصورة وتأثيرها، فتتحول الروايات والقصص إلى عمل درامي فني تتفاعل معه حواس السمع والبصر وتتعايش معه المشاعر، وربما كان هذا هو السبب الرئيس وراء رغبة الشيخ الدكتور عائض القرني في تحويل كتابه الشهير «لا تحزن» إلى مسلسل درامي اجتماعي وفقًا لما ذكرته صحيفة الشرق مؤخرًا. مسلسل عمر يهدف إلى استلهام سيرة الفاروق رضي الله عنه وإبراز شخصيته الفريدة ليس للأمة الإسلامية فقط بل للعالم كله فقد تم دبلجته وترجمته للغات عديدة، ولقد نجح المسلسل في تعريف الناس بشخصية عمر قبل الإسلام حيث فروسيته وحبه للرعية وقد كان مفوّه اللسان وصاحب قوة ومروءة وحكمة، بينما كان أغلبنا لا يعرف من كتبنا ومناهجنا الدراسية إلا على عمر الصحابي والخليفة. ومنذ أول الحلقات تفاجأ المشاهدون بالتقنيات العالية وضخامة الإنتاج، ولأنَ اختيار الممثلين يعتمد على مقدرتهم الفنية في تجسيد الأدوار وقدرتهم على إقناع المشاهد بالأداء فقد برع المخرج حاتم علي في انتقاء معظم العناصر الفنية إن لم يكن كلها، واستمتع المشاهدون بجيش من الحكمة وروعة البيان وحشد من العبارات البليغة صاغها باقتدار الأديب المؤرخ الدكتور وليد سيف. الجميع يعلم أنَ سيرة الفاروق عمر موجودة في الكتب، حفظت كغيرها من السير ونقلت إلينا باستخدام الكتابة كوسيلة ناقلة وأداة تعبير وتواصل، ولكن أدوات التواصل تتغير مع تغير الأزمنة، والزمن الذي نعيشه الآن هو زمن المشاهدة وباتت الصورة هي أداة التواصل بين الناس والوسيلة الأقرب لإيصال المعلومة إلى قلوبهم، فما يستغرقه المرء من ساعات لقراءة كتاب، قد تختصره الشاشة في مشاهد درامية سريعة مؤثرة، لذلك وعلى سبيل المثال كان التأثير أقوى على المشاهد وهو يتابع قصة إسلام عمر خلال المسلسل رغم علمه بها مسبقًا وقراءته لها مرارًا وتكرارًا. نجح فيلم «الرسالة» الذي أنتج في السبعينيات الميلادية بل إنه أسهم في إسلام عدد من الغربيين وبات مصدر إلهام للمسلمين ونموذج تربية ودعوة لديهم، وعلى نفس الطريق يمضي مسلسل «عمر» سعيًا نحو إثراء المكتبة الإسلامية بالدراما التاريخية المعبرة بالصوت والصورة حتى تكون منبرًا فاعلاً لنشر الدين الإسلامي وقيمه الراقية ومنارة ثقافية يستفيد منها الجيل المعاصر والأجيال القادمة. (*) كاتب وباحث أكاديمي