في البدء.. لافي الغيداني بحر لا سواحل له، ومحاولة الغوص في أعماقه، أشبه ما تكون بمحاولة الانتحار بنّية مسبقة، لكن ذلك لن يمنعنا من محاولة التقاط ما نستطيع من درره ومرجانه ما استطعنا في هذه القراءة المتواضعة لتجربته الشعرية. لافي الغيداني مع الشعر.. قبل الشهرة وبعدها: لفترة طويلة، كانت قصيدة لافي الغيداني محصورة في مداءات لا تتجاوز معارفه وأصدقاءه، وكان له الدور الرئيسي في هذا التحجيم، فهو كان ولا يزال يكتب القصيدة، ولا يهمه إلى أي مدى يمكن أن تصل، ولا يبحث لها عن منبر، أو وسيلة إعلامية للانتشار، لكن تميّز وتفرد لافي، وعِظم موهبته، ونضوج تجربته، أوصل الناس إليه، عندما لم يسع هو للوصول إليهم، وأصبحت بصمته الشعرية ثابتة في طول وعرض الخارطة الشعرية، وأصبح اسمه من الأرقام الصعبة جدا في ساحة الشعر، وصارت قصائده تجوب أفق الشعر، ويتنادم بها السمار. المبهج لكل من يحب الشعر في أبهى وأنقى صوره، أن هذا الانتشار لم يحدث نتيجة لسعي من الشاعر، فضلا عن أن يقدم أي تنازلات، قد تصل إلى إراقة ماء الوجه كما يحصل لمن حفيت أقدامهم في دروب المجلات وشقق القنوات الفضائية وصالونات الحلاقة/ التجميل الفاخرة. هذا الحديث العام، يظل خارج التجربة الشعرية لهذا الشاعر، لكن الغوص في أعماقها - كما قلت في المقدمة - يتطلب مهارة لا تتوفر لكاتب هذه الأسطر المتواضعة، فعلى الرغم من أن لافي رفيق درب، وصديق عمر، إلا أنني أقف أمام منجزه الشعري، برهبة كبيرة، ودهشة، تفرّ من تأثيرها الجمل وترتبك، لكني - على الرغم من كل ذلك - سأتناول طرفا من الخيط السحري وأقول: * ملامح عامة حول تجربته الشعرية: من خلال قراءة، وتأمل، تجربة شاعرنا المتفرد نلاحظ أنها تحتوي على خمس خصائص رئيسية تميزها، وتمتاز بها، وهي: - تلقائية، وسهولة تراكيب جمله الشعرية، ووضوح عدم حرص الشاعر، أو تعمده استخدام المحسنات البديعية من جناس أو طباق أو سجع مفتعل، إلا ما كان داخل ضمن البنية الأساسية للنص، كالتورية والطباق والتشبيه، والاستعارة، والكناية التي لابد منها في قصائد متميزة لشاعر متميز. - تتأكد فعالية مدرسة التحليل النفسي الشعري، عند تطبيقها على ما نحن بصدده هنا، فقصيدة شاعرنا هي الأشبه به، ومن يقرأ قصيدة لافي وهو يعرفه شخصيا، لابد أن يلحظ القواسم المشتركة الثابتة بين الشاعر وقصيدته مثل: البساطة، العمق، عدم التكلف، الهدوء النفسي، ويتجلى ذلك كثيرا في مفرداته، وحتى طريقة إلقائه لقصائده، بكل هدوء، ورزانة، وثقة، وهو من الشعراء القلة جدا الذين استطاعوا الحصول على ثنائية الإعجاب والاحترام، وهي معادلة في غاية الصعوبة، وكثيرا ما يفلت أحد طرفيها من الكثير من كبار الشعراء. قلتُ إن قصائد لافي هي الأشبه به، وكأنني استمع إلى لافي متحدثا بعفويته وهو يقول: نحّروه الليل مع وقت المغيب الثنين اللي على العزا أقصرى ماعليه الا صحيبٍ مع صحيب بالملح والزاد والطيب أخشرى أو: قال اهله معه ارحلوا.. قلت ياشاب! يعني لا زايركم ولا زايرينه؟! ومنها: بيني وبينه ما وقف غير الاداب آداب سلم ٍ كلنا وارثينه منه حترام شعور عربين الانساب ومنه حترام الرجل نفسه.. ودينه أو: غلاك متمكني وأنا سارحٍ ضاوي وأنا صغير للحب في خفا خافقي نبع يقولون والعهدة على ذمة الراوي يقولون أهلي تموت به وأنت ابوسبع أو: يكبر الرجال امام المهمات الجسام ويصغر الرجال امام الجمال الانثوي ما يتحمل نظرة العين.. وارخاي اللثام لو باسه باس رحمة حياة بن جلوي - مدرسته الشعرية: للوهلة الأولى يبدو لافي شاعرا كلاسيكيا، لكن الواقع يؤكد أنه غير ذلك تماما ومن الظلم تحجيم هذه التجربة الرائدة بهذا النمط، ولعل اشتهاره بالوصف الذي أدهش عشاق الشعر ومتذوقيه، وما يتطلبه هذا الغرض من ألفاظ ولغة تقليدية كرس هذا التصور، لكن الواقع غير ذلك تماما، فهو ومنذ أكثر من عقدين من الزمن يكتب النص التجديدي المتزن، دونما اندفاع غير محسوب في هذا المجال، مثلما سيتضح لنا من خلال الفقرة القادمة. - سعة مخزونه اللغوي، وثراء قاموسه الشعري: شاعرنا صاحب مفردة شاسعة، وقادرة على احتواء كل أغراض الشعر، وإيصالها بكل اقتدار وتمكن، فمفردته موجعة إن عتب - وهو يعتب ولا يهجو - ومدهشة ان تفلسف، ومبهرة إن وصف، ومنصفة إن مدح، ومتسامية إن افتخر، ورقيقة ناعمة إن تغزل. من هنا نرى أن وصف شاعرنا بالتقليدية أمر مخالف للواقع ومتصادم معه، ولو أردنا أن نطبق معايير الحداثة وفق التعريف الذي ذكره عرابها في المملكة الدكتور عبدالله الغذامي، وهو (التجديد الواعي) لوجدنا أن هذا الوصف هو الأكثر مطابقة وملاءمة لتجربة لافي الغيداني الشعرية، بل إنه كان أكثر جرأة من شعراء الحداثة أنفسهم، عندما عمد إلى ما يسمى (بتفجير اللغة) بتبديل العلاقات اللغوية بين الجمل والمفردات الشعرية، ولكن بأسلوب ناضج وواع كما يشترط الغذامي. - كما ذكرنا سابقا، لافي الغيداني شاعر وصف بشكل مهول، وهذه الإجادة غير المسبوقة لهذا الغرض من الشعر، وتناقل الناس لهذا النوع من القصائد، جعلها تكاد تكون السمة الغالبة لقصائد لافي، لكن الواقع أن تجربته غنية بكل أغراض الشعر، وعلى نفس الدرجة من الإجادة والتمكن. * ملامح من داخل التجربة : - منهجه الشعري كما مرّ معنا فيما سبق هو شاعر حر، غير منتم إلى أي مدرسة أو نمط شعري معين، لكنه يحلق في فضاءات لم تلامسها من قبله أي أجنحة، والقصيدة تتعبه، وتنهكه، كأي عمل جبار يستحق مثل هذا التعب، وهو راض بهذا الجهد مقابل سبر أغوار غير مأهولة من قبل ولذلك هو: يدور على اللي تفحمه راسها مالان ويعرض عن اللي تعترض.. تقل معسوفه بيوت القصيد الندر.. أحذر من الغزلان قوانيصها يلحقهم رهاق.. وكلوفه ويؤكد أنه: من عادتي أجتهد بالقاف.. واطرّزه باجمل عبارات.. والاّ اريّحهْ واستريح ان ما نظمْتهْ نظُمْ سبْحهْ خْرزهْ.. أخْرزهْ لو قالو انّه مليح.. اقول مااااهو مليح - الصور الشعرية: كما قلنا، وكما يعرف كل محب للشعر، أن لافي شاعر وصف غير طبيعي، والمعروف أن قصيدة الوصف تعتمد كليا على شاعرية كاتبها، وسعة مخيلته، ولست هنا، بصدد الاستشهاد ببعض روائع لافي بهذا المجال، بل لقد تعمدت ألا استشهد بأي قصيدة وصفية، لكنني سأطرح أمثلة سريعة، من قصائد ليست وصفية على الإطلاق، لكن الصورة الشعرية بها كانت حاضرة بشكل مبهر ومتقن في الكثير من قصائدة ومنها: - من قصيدة مؤثرة قالها ووالده يرحمه الله بين أيدي الأطباء على إثر حادث مروري انتقل على إثره إلى رحمة الله: قامت ضحا.. بين الضلوع القيامة رجاء.. ويأس.. وحزن طاغي.. وتفكير للقلب من قوع العروق انصرامه يوم الاطباء يكتبون التقارير يزود نبضه.. ويتلخبط نظامه وأحس في كتمه.. وأفك الازارير - و من قصيدة رثائية موجعة يقول: هكا المساء وش يمسحن المناديل كن السحاب الروس.. والدمع ديمه - ومن قصيدة مدح رائعة يقول: أنت مثل السنة كلّك فصول تشبه اشهورها وأيامها بس معها تعامل في أصول تحسن بوقتها استخدامها - ومن قصيدة ذاتية ممتلئة بالشجن والشعر يقول في الختام: الحمد لله بالسرا.. وبالضرا كني بريموت غصبٍ عني موجه - ومن نص غزلي رقيق: تزهر حياتي في حضورك ولا ماك مثل المطر تزهر من حضوره القاع قلت أبي أجرّب قلبي أحاول أنساك وأرتعت قبل القلب يدري ويرتاع - وفي نفس الغرض أيضا: في داخلي للغلا حفل وقناديل وناس تعانق بعضها في حرارة - وختام هذه الصور، نقف على هذه اللوحة التراجيدية الغارقة في الحزن والألم: وجودي على شوفة وليفي وجود صبي بعد ما وعى قلبه تفاجا بموت أمه طواه اليتم فأول شبابه ووضعه سي عقب ولية أمه صار في ولية العمه إلى سوّت الطعام تعطيه منه شوي ومن وين ما أمسى نام متوسد كمه وأبوه أجودي حي لكن ما كنه حي عليه اتكله والخايبة ما بها ذمه هذه بعض ملامح الشاعر المبدع لافي حمود الغيداني التي حاولت جمع شتاتها في هذه القراءة العابرة التي أتمنى أن أكون وفقت من خلالها.