في قرية صغيرة تقع على النفود، لم يكن يتجاوز عدد قاطنيها المئات، وُلد ذاك الصبيُّ عام 1957م، وخرج من قريته وهو فتى غضٌّ، لم يتجاوز الثمانية أعوام من عمره مع أهله، متّجهًا صوب العاصمة الرياض، التي تبعد عن مسقط رأسه ما يقارب ال250 كيلومترًا.. ذلك الخروج بقي راسخًا في ذاكرة «ناصر الطيار»، وصور الفقر والجوع والبحث عن الذات من أجل العزة والكرامة، وهو يهيم بحثًا عن حياة جديدة مع شقيقيه أحمد وسليمان لم تفارق مخيلته.. وذكرياته البسيطة مع أقرانه بقرية الزلفي آنذاك، وهو يمتطي سطح شاحنة في الظهيرة اللاهبة، وبين ذرّات الرمال التي تحملها تلكم العاصفة الهوجاء، التي كادت أن تفتك ببصره من شدة تحرّكها، كانت أحلام الفتى الصغير تجوب داخل صدره، وتطلّعات المستقبل في فكره. ورغم ذلك لم يرف له جفنٌ، وهو يتابع مسار المركبة الكبيرة التي تقلّه.. وببراءة الطفولة كان يسأل شقيقيه عن طول المسافة، في طريق أشبه ما يكون معبدًا.. وللوهلة الأولى التي شاهد فيها الرياض لم يدر بخلده قط أن أمامه مشوارًا طويلاً، وصعبًا، ومليئًا بالأشواك. ويحكي الدكتور ناصر بن عقيل بن عبدالله بن أحمد الطيار القرشي الهاشمي عن تلكم المرحلة من حياته بالقول: أقمتُ وأهلي في حي غميتة، قرب الصالحية، وهو من أحد أحياء الرياض القديمة جدًّا ، وتلقيتُ تعليمي الابتدائي، والمتو سط، والثانوي في مدينة الرياض، ثم التحقتُ بجامعة الملك سعود، وتخرّجت فيها متخصصًا في العلوم الإدارية «تخصص علوم سياسية»، ثم حصلتُ على الماجستير في العلوم الإدارية «تخصص اقتصاد سياحي»، والدكتوراة في العلو م الإدارية «تخصص تسويق سياحي»، كل ما أتذكّره عن بداياتي أنني وجدتُ نفسي أعيش في بيت طيني، يضم عائلة من سبعة أفراد في أحد أحياء الرياض المتواضعة، بعدما انتقلنا من الزلفي، وتلك الرحلة لا يمكن أن أنساها نظرًا للمعاناة التي عشتها في السفر من الزلفي إلى الرياض، فالوالد -رحمه الله- كان موظفًا بشركة أرامكو، وكنتُ شديدَ التعلّق بأخي الأكبر غير الشقيق محمد العبدالله الطيار، وهو صحفي معروف ولامع إبّان الحقبة الماضية من القرن المنصرم، وقد حاول إشراكي في بعض الكتابات الصحافية، وبالفعل مارس ناصر الطيار في بداياته مهنة الصحافة فعليًّا، وشارك في عدة صحف، ثم استمر يكتب في تخصصه، وله الكثير من المقالات والبحوث في الشأن العام والسياحي، ولكن شغفه في إكمال دراسته أوقفت موهبته الصحفية لفترة من الزمن. ويستطرد الدكتور في إحدى المناسبات سرد كفاحه الذي استمر لأكثر من نصف قرن. الأحلام .. والرغبة أمّا في المدرسة فزملائي كانوا من عائلات ثرية، وكم كانت تداعبني الأحلام والرغبة في أن أكون مثلهم، لكن الفقر والحاجة آنذاك، دفعاني إلى العمل في سن الثالثة عشرة، فقد فتحت تلك المرحلة من حياتي عيني على معنى الثراء.. لقد بدأ ناصر الطيار العمل وهو ابن الثالثة عشرة ربيعًا، على وظيفة محاسب في بنك كان يجبره على العمل من الثانية ظهرًا، وحتى الثانية فجرًا، براتب لا يتجاوز التسعمائة ريال، ويذهب إلى مدرسته وعيناه ذابلتان من النعاس، وببراءة الطفولة لم يكن يشكو من الإرهاق، أو التعب خشية أن يصفه أحدٌ من أفراد العائلة بالمتكاسل، فأثقل على نفسه، ولم يعشْ مرحلة الطفولة، بمعناها الحقيقي كبقية أقرانه الذين كان يشاهدهم، ورغم كل ذلك لم يتوانَ عن مواصلة كفاحه بين العمل والدراسة، من أجل مستقبل مشرق.. فكان عليه أن يشق طريقه بنفسه، فيما كان أحد أشقائه يعمل في مجال آخر، ويتقاضى 450 ريالاً، لكنهما كانا يجدان فيما يتقاضيانه بركةً أكثر، رغم قلته، وأجمل ما في تلكم الحقبة هي تحمّل مسؤولية الأسرة، وواجه ناصر الطيار في بداية حياته الكثير من الصعاب، وعندما انتقل للعمل بالخطوط السعودية، كان عمله مقتصرًا على مراجعة عدد الركاب، ومتابعة خروجهم من الطائرة، وإغلاق بابها فقط، لكنّ الأمر لم يُعبه، ولم يجد غضاضة من ذلك، ولأنه أثبت جدارته، وإخلاصه طلب منه مسؤولو الخطوط الاستمرار معهم، وفعلاً واصل المشقّة، وكأنّه على موعد مع الثانية ظهرًا مرّة أخرى! فكان يواصل عمله حتى العاشرة مساء.. ورغم كل ذلكم الجهد، كان إكمال الدراسة الجامعية حلمًا يراوده، ووضعه أمام ناظريه كخط أول، لابد من تجاوزه، وتحقق بالتحاقه في جامعة الملك سعود، التي تخرّج فيها عام 1982، على أمل أن يصبح يومًا ما سفيرًا خارج المملكة، ولكنّ الخبرة التي اكتسبها ساعدته نوعًا ما.. على افتتاح مكتبٍ صغيرٍ خاصٍّ بالسفر والسياحة في شارع التخصصي، ومن هنا كانت القصة التي أساسها المصداقية في التعامل مع الآخرين، والتواضع، وحب الناس الذي أرغم منافسيه على احترامه. التجربة الأولى لكنّ المال كان أكبر معوّقات تقدّمه، فجمع مع أصدقاء له لم يكن أحدٌ منهم من بني جلدته مبلغ 250 ألف ريال، للبدء في المشروع، وفي هذا الصدد يقول الدكتور ناصر كنت متحرجًا، ولم أطلب المال من أقربائي، وبعد عام واحد، أي في عام 1983، افتتحت فرعًا آخر في مدينة جدة على أمل أن يمكّنني ذلك من الحصول على وكالة مبيعات عامة من الخطوط السعودية، ولم أحصل على تلك الوكالة حتى عام 1988م. وواصل ناصر الطيار تجربته التي مُنيت بالفشل في أول الأمر، فقد توقّع أن يحققَ أرباحًا خيالية، ولكنه مُني بخسائر فادحة بالنسبة لرأسماله البسيط حينذاك، ولكن الانزواء، والتوقف، وإعلان الخسارة ليست من ديدن الرجل، فقد ثابر من أجل إنعاش تجربته، فكان له ما أرد حتى وصل بها إلى العالمية، وأصبحت إمبراطورية الطيار السياحية في كل مدينة ودولة.. لقد خاض ناصر الطيار عدّة تجارب مضنية في حياته المهنية، بدءًا من موظف بسيط يواصل الليل والنهار لدخل لا يكاد يكفي أسرته البسيطة، ثم إلى الصحافة التي أبدع في تجربتها، مرورًا بتجارب تجارية صعد وانكسر، ثم صعد وارتقى فيها؛ لأن مبدأ الرجل كان إنصافَ مَن يعمل معه، ولم يكن يومًا ممّن يطمعون في إرهاق العاملين معهم. فاكتسب صبغة الإداري الناجح، وقد تسنّم عدّة مناصب عُليا لم تُحِده عن إنصاف العاملين معه، وعلى الجانب الإنساني والاجتماعي، ساهم الشريف ناصر بالمال والجهد، بل وأسس جمعية خيرية عملت على الوصول إلى الكثير من الأسر المحتاجة داخل المملكة، خاصة في القرى والأرياف، ومدّ يد العون لكل محتاج.. وساهم في إنشاء كرسي العلّامة الشيخ ابن عثيمين بجامعة القصيم.. وفي الجانب الإداري كان للدكتور ناصر الإبداع الحسّي، فقد عقد الكثير من الصفقات الناجحة التي أثمرت نتائجها خلال ثلاثة عقود ماضية نجاحات متتالية زادت فيه الاستثمارات خارج وداخل المملكة، وولج إلى عالم الإعلام الذي تركه منذ أمد ليس ببعيد؛ ليعود إليه في مساهمات لعدة جهات إعلامية ناجحة، كانت آخرها جريدة المدينة التي يتسنّم اليوم دفة رئاستها.. ويعقد العاملون فيها الكثير من الآمال على دفع مسيرتها الناجحة لنجاحات أكبر وأعمق، وهي تستثمر اليوم فكر رجل إداري مارس العمل الإعلامي، وعرف خباياه من منطلق احتكاكه بالإعلام، ومعايشته لأدق خباياه.. والمتتبّع لشخصية الدكتور الشريف ناصر بن عقيل الطيار يجد البساطة والتواضع فيه، وما لا يعرفه البعض أن الطيار الذي يُعدُّ إمبراطور السفر والسياحة في الشرق الأوسط يقضي وأسرته صيفه في ربوع الوطن..