هذه إشارات لما عليه علماء الأحساء من تآلف وتآخٍ، حيث كانت وفرة المذاهب الفقهية عامل ثراء ونماء كان بين علماء الأحساء من الروابط ما جعلهم يخصصون يوم الجمعة يوم تزاور وصِلة أرحام، والعلم رحم بين أهله، جعلوا يوم الثلاثاء ليكون مجلسًا يلتقون فيه في البساتين التي كانوا يسمَّونها النخيل لأن النخل هو عماد زراعتهم، وكانوا لا يقبلون شريكا لهم في هذين اليومين، فهذا الشيخ عبدالعزيز بن حمد آل الشيخ مبارك يقول لأحدهم وقد تخلَّف: يا خليلِي علامَ تَهْجُرُ قومًا مَحَضوكَ الوِدادَ مُذْ كنت طفلا هل تشاغلت عنهُمُ بغزالٍ يستميل القلوبَ حُسنًا ودَلاَّ فلِهذا وقتٌ وللصَّحْبِ وقتٌ وأحَظُّ الوقتين وقت الأخِلاَّ وكانت هذه المجالس محلًا للتدارس والتباحث في شتى العلوم، وفيها من المباسطات والمكاتبات الأدبية ما يزيدها بهجةً وأنسا. فمن ذلك ما كتبه الشيخ عبدالعزيز بن حمد آل الشيخ مبارك المالكي إلى صديقه الشيخ عبدالله بن علي آل عبدالقادر الشافعي: البينُ صدَّك لا أن تشحط الدارُ ومدمع العين في الحالين مدرار يا آسِرَ القلب جبرا في محاسنه أمَا لِمَكسور قلبي منك إجبار إلى أن قال: فإن في المنحَنَى من أضلعي لكُمُ بيتٌ وأنتم له مُذْ كان عُمَّار فكيف هان عليكم أن تُضرَّمَ في بيتٍ بكم عامرٌ يا سادتي النار ومما يحكى عن الشيخ عبدالله بن علي آل عبدالقادر الشافعي أن متصرِّف الدولة العثمانية في الأحساء الباشا أحمد عزة العُمري أعطاه أبياتًا ليُخمِّسها وهي: إن المذاهب كالمناهل في الهدى والمرء مثل الوارد الظمآن والنفس إن رويت بأوَّل مَنهلٍ غَنِيَت بلا كرهٍ لشرب الثاني فخمَّسها بقوله : يا سالكًا وجد الطريق تعددا خذ ما تشاء فسوف تأتي المقصدا واحذر وقوفك حيرةً وتردُّدا إن المذاهب كالمناهل في الهدى والمرء مثل الوارد الظمآن فإذا نزلْت مِن الحِمى في منزلٍ لا أُلْفِيَنَّك عن سواه بمعزل فالحُرُّ لا يَبقى رهينة أوَّلٍ والنفس إن رويت بأوَّل مَنهلٍ غَنِيَت بلا كرهٍ لشرب الثاني ومن ذلك أن الشيخ حمد بن عبداللطيف آل الشيخ مبارك المالكي كان قد آثر الهجرة إلى مكة، فلما فعل وطال به المقام جاءه من قال له: إن أهلك وأحبابك عاتبون عليك، فكتب قصيدة إلى صديقه الشيخ عبدالله بن علي آل عبدالقادر الشافعي يعاتبه فيها، ويُظهر له سرورَه بالمشاعر المقدسة فأجابه الشيخ عبدالله بقصيدة يقول فيها: خيالٌ سرى لي مِن بلاد بعيدة لشدِّ الأواخي والعهود القديمةِ يساءلني بالله لا تنسينني ومن أين للظامي تناسي الأحبَّةِ إلى أن قال: فيا حَمْدٌ المجتاز منها بسدَّة إليها تناهت كلُّ أحبار ملَّةِ أقم واستقم فالباب سهل حجابه لِغاشي فِناهُ بافتِقارٍ ورَغبةِ لِتَصرفْ عن الدنيا عنانكَ راضيًا كأنك بالداعي إلى خير نزهةِ وبلِّغ سلامي مِن لَدُنْكَ عصائبًا مِن القوم أرباب القلوب المُنيبةِ ومما قال الشيخ محمد بن الشيخ مبارك المالكي في مديح العلامة الشيخ أبو بكر بن محمد بن عمر الملا الحنفي: إليك أبا بكرٍ تحِنُّ جوانحي ولو لامَني فيك العواذلُ حُسَّدا فشيَّدْتَ رَبع العلم بعد دروسه ومثلك مَن للعلم قد كان شيَّدا وهذه خاتمة المحقِّقين بالأحساء سيدي العم الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ مبارك رحمه الله كان يُدرِّس الفقه على ثلاثة مذاهب، فكان له طلاب يدرسون الفقه المالكي، وله طلاب يدرسون الفقه الحنبلي أجلُّهم الشيخ عبدالعزيز بن بطي الحنبلي حفظه الله، وله طلاب يدرسون الفقه الشافعي، أجلُّهم الشيخ عبداللطيف آل نعيم الشافعي رحمه الله الذي كان أقرب تلاميذه إليه. هذه إشارات لما عليه علماء الأحساء من تآلف وتآخٍ، حيث كانت وفرة المذاهب الفقهية عامل ثراء ونماء، أسأل الله أن يجمع شمل المسلمين ويزيل عنهم أسباب التفرق والشقاق والحمد لله رب العالمين.