البشر مختلفون ومتنازعون في أصل بشريتهم، ويرجع ذلك لسببين: أولهما: تنوع مداركهم، ويرجع ذلك لأسباب شخصية أو بيئية أو معرفية، والمحصلة أن قوة الإدراك مختلفة، والطريقة التي يتم بها إدراك الأشياء مختلفة أيضاً. ثانيهما: تنوع مصالحهم، وهذا ظاهر إلى درجة التضاد، فما يراه أحد مصلحة قد يراه الآخر مفسدة، يرجع ذلك إلى مفهومه للمصلحة والمفسدة، أو تقديره له، أو حتى آنية ظرفه وطبيعة عيشه، أو وفقاً لما يخطط له ويستشرفه. وإذا كانت الطبيعة البشرية محايدة، إلا أن حياديتها ليست معزولة عن أمرين مهمين: أولهما: القابلية؛ فالنفس البشرية قابلة للخير والشر، والحق والباطل. وهكذا (ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها)، وهذا يمثل مصدر الطاقة لديها «الدوافع والبواعث». ثانيهما: الامتزاج، فالإنسان خير وشر وقوة وضعف، وهكذا أيضاً طبيعة الحياة، فالإنسان والحياة حال متناغمة في الصفة والحركة، وكما يعبر الفقيه الشاطبي المالكي بقوله «الدنيا مزيج»، يعبر الفقيه ابن تيمية الحنبلي قائلاً «الدنيا دار امتزاج»، ومن هنا فالإنسان تقوم حياته «مصالحه ومعارفه» على التغليب والترجيح، وهو لن يكون قادراً على الترجيح والتغليب حتى يعرف ويتعرف على هذا وهذا، الموافق والمخالف، المتفق والمختلف. يقول الفقيه ابن تيمية «الفقيه من يعرف خير الخيرين وشر الشرين»، وبالطبع فإن التعرف يسبقه الاعتراف، فاعترافك بالأشياء وجوداً وأهمية واحتراماً هو الذي يدفعك للتعرف عليها والإفادة منها. هذه التقدمة لا بد منها كمفتاحية للحديث عن التعدد عموماً والتعدد المذهبي خصوصاً، فالسعودية كأي تجمع بشري يحمل المجتمعون فيه طبائع وطرائق وأفهاماً مختلفة، وينتمون إلى عادات وممارسات متنوعة، ومن ذك الانتماء المذهبي. والدولة وكأي دولة تحمل الوعي الحضاري لا تسعى إلى إلغاء هذا التنوع أو تهميشه، وإذا كان بعض الفقهاء أو أتباعهم أو مقلدوهم ممن ليسوا بفقهاء «فرب حامل فقه ليس بفقيه»، أفراداً كانوا أو مدارس تتمثل في معاهد وجامعات، أو مؤسسات تتمثل في إفتاء أو قضاء، يحاول إلغاء هذا التعدد المذهبي فهي محاولات بائسة ويائسة، لأمور منها: - أن ذلك مخالفة لحقائق وطبائع التجمع البشري التي أشرت لها آنفاً. - أن ذلك ليس من مصلحة الحق بنوعيه «الحق الموجود والحق المنشود»، إذ الحق والصواب والعدل ليس عند أحد من دون أحد، أو في مدرسة من دون أخرى، وهو يتغير بتغير الزمان والمكان والأحوال والأشخاص، كما هو مقرر في أصول الإستدلال. - أن ذلك ليس من السياسة الشرعية في شيء، التي تقضي بأحقية الناس في انتمائهم الشخصي وميلهم النفسي وذكائهم الفهمي؛ فالسياسة الشرعية العدلية تقرهم في ما هم فيه ما يؤدي لمصلحتهم الغالبة ويدفع عنهم المضرة الغالبة. والمشهد هذا واضح في الحال السعودية «دولة ومجتمعاً» فنحن في السعودية نعيش وضعاً مهماً، فمن هنا أشرق الإسلام وإلى هنا يأرز الإيمان، وما بين ذلك من تحول وقبض وبسط ستكون مستوعبة له كمكون لهذا المجتمع ودولته، إنه الإسلام بمعناه العام والشامل الدين الذي هو قدر الله لهذه البلاد، وهي قادرة على استيعاب عقول أهله ومفكريه وعلمائه ومدارسه، لكنها - أي هذه البلاد - على استنبات ما يطارد هذه الهوية، أي أن الإسلام لهذه البلاد هو «خيار وقدر». إن ثمة مجتمعات أخرى أخذت نسقاً واحداً غير متعدد في المذهب والرأي، فمثلاً من ليبيا إلى طنجة ستجد المذهب المالكي. والأكراد كلهم على المذهب الشافعي. وهكذا في سياقات مشابهة. أما في بلادنا فالتعدد المذهبي هو الأصل في الوجود والتكوين، سواء في المدارس والمؤسسات أو في العوائل والأفراد، الإمام فيصل بن تركي - رحمه الله - لما ذهب إلى الأحساء أنشأ مسجدين: في المبرز وجعل إمامته لعائلة آل عبدالقادر، وهي عائلة علمية على مذهب الشافعي. وفي الهفوف، وجعل إمامته لأسرة آل الشيخ مبارك، وهي عائلة علمية على مذهب الإمام مالك، ولا يزال في ذريتهم إلى الآن. هذه الأحساء يوجد فيها السنة والشيعة، ولم يوجد صراع على أسس مذهبية بين أهلها. ومثلها القطيف التي ذكر ابن بطوطة فيها التشيع قبل 700 سنة، ولم يكن التنوع مصدر صراع. مكة والمدينة وجدة «الحجاز» كانت كل المذاهب ومدارسها وعلماؤها متوافرة فيها، وفي الحرمين الشريفين تعقد الدروس لكل المذاهب، وكانت الكتب تصنف وتنشر. في نجد كانت المذاهب كذلك، فالخرج والأفلاج على مذهب الأحناف. وعوائل علمية نجدية كانت متعددة المذاهب، فمثلاً أسرة آل الشثري على مذهب الشافعي، وأسرة آل خنين على مذهب الأحناف. والتعدد المذهبي لم يكن غائباً عند تكوين المرجعية العلمية الدينية في السعودية والمتمثلة في «هيئة كبار العلماء»، فإلى جانب الشيخ عبدالله بن حميد، والشيخ عبدالعزيز بن باز وهما حنبليان، كانت الهيئة تضم الشيخ عبدالمجيد حسن الجبرتي وهو شافعي، والشيخ محمد الأمين الشنقيطي وهو مالكي، والشيخ عبدالله خياط وهو حنفي. مراغمة هذه الحقيقة الواقعة سترتد على المراغمين، ولن تخدم الحقيقة، بل ستضيق الآفاق وتحد من الرؤية، والنتيجة عسر بدل اليسر، وضيق بدل السعة، وقطيعة بدل الوصل... ولهذا الحديث بقية مهمة. [email protected]