هذه المذاهب الأربعة المدونة المحرَّرة قد اجتمعت الأمة أو مَن يُعتدُّ به منها على جواز تقليدها إلى يومنا هذا. نشأ التقليد بين الناس وفَشَا حتى صار يقال: فلان حنفي وفلان شافعي وهكذا، حتى بين علماء الحديث كالإمام النسائي رحمه الله فقد كان شافعيًا. وإذا كان التمذهب والمصير إلى التقليد عنوانًا لكلال الهمم وركونًا إلى الدَّعة والكسل، فإن المصير إليه لمن عجَز عن اقتراح الأحكام من أدلَّتها التفصيلية مصلحةٌ يجب الأخذ بها، كما قال خاتمة الحفاظ بالبلاد الهندية شاه وليُّ الله الدهلوي: أن هذه المذاهب الأربعة المدونة المحرَّرة قد اجتمعت الأمة أو مَن يُعتدُّ به منها على جواز تقليدها إلى يومنا هذا، وفي ذلك من المصالح ما لا يخفى لا سيَّما في هذه الأيام التي قصرت فيها الهمم جدًا وأشربت النفوس الهوى وأُعجبَ كلُّ ذي رأي برأيه ه. وفي هذا يقول الحافظ أبو بكر بن العربي رحمه الله عند تفسير قوله تعالى «وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا «: (تعلَّق قوم بهذه الآية في ذم التقليد..... فأما التقليد في الحق فأصلٌ من أصول الدين وعِصمةٌ مِن عِصم المسلمين، يلجأ إليها الجاهل المقصِّر عن درْك النَّظر... فأما جوازه بل وجوبه في مسائل الفروع فصحيح). وفي لزوم اتباع هؤلاء الأئمة الأربعة يقول العلامة الشيخ محمد السفاريني الحنبلي في منظومته المسماة الدُّرة المرضية: مَن لازِمٌ لِكلِّ أرباب العملْ تقليدُ حَبْرٍ مِنهُمُ فاسمعْ تخِلْ وإنما انعقد الإجماع على ذلك لأن الناس لم تزل منذ عهد النبوة تستفتي، ولم يزل الاستفتاء والإفتاء منتشرًا بعد عصر النبوة بين الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم أجمعين، وكثر المفتون في الحرمين وفي غير الحرمين من الأمصار من غير نكير من أحد. فإذا كان استفتاء الفقهاء، مرَّة يستفتى هذا ومرَّة يستفتى هذا جائزًا إجماعًا، فإن الاقتصار على استفتاء واحدٍ من العلماء دون غيره أجْوَز، إذا كان المستفتَى موصوفًا بالعلم والديانة كالأئمة الأربعة المتفق على جلالة قدرهم وعلى حفظ مذاهبهم. ولعلامة الأحساء سيدي العم الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ مبارك رحمه الله المتوفى سنة 1403ه رسالةً فيما يجب على المكلَّف من الاعتقاد نصَّ فيها على الإجماع على وجوب التقليد في الفروع على القاصرين عن رتبة الاجتهاد إلا مَن شذَّ من معتزلة بغداد. غير أن من الأهمية أن نتبيَّن حقيقة التقليد وهو ما أفصح عنه الشيخ أحمد زَرُّوق البُرْنُسيُّ الفاسيُّ بقوله: (التقليد: أَخْذُ القول مِن غير استنادٍ لعلامةٍ في القائل ولا وجهٍ في المَقُول، فهو مذموم مطلقًا لاستهزاء صاحبه بدينه. والاقتداء: الاستناد في أَخْذِ القول لديانة صاحبه وعلمه، وهذه رتبة أصحاب المذاهب مع أئمتها فإطلاق التقليد عليها مجاز. والتبصُّر: أخذ القول بدليله الخاص به، من غير استبداد بالنظر، ولا إهمال للقول، وهي رتبة مشايخ المذهب وأجاويد طلبة العلم. والاجتهاد: اقتراحُ الأحكام مِن أدلَّتها دون مبالاة بقائل، ثمَّ إن لم يعتبر أصل متقدِّم فمطلق، وإلا فمقيَّد) ومن عميم نعمة الله على الأَحساء أن جعلها بيتًا لأرباب المذاهب الأربعة، فكان بها علماءٌ بل أُسرٌ علمية كآل أبي بكر الملا وآل عبد القادر وآل عمير وآل عرفج وآل غنَّام وآل عفالق وآل الشيخ مبارك، وغيرهم الكثير ممن لم يكونوا حفظةً للمسائل، بل فيهم من أكابر العلماء الذين شأنهم استنباط دقائق الشرع وتقرير عِلل المذهب وتمهيد أصول الفتيا، كالشيخ أبي بكر بن محمد بن عمر الملا الحنفي والشيخ مبارك بن علي بن حمد الأحسائي المالكي و السيد عمر بن عبد الرحيم الحسني الشافعي والشيخ محمد بن عبدالله بن فيروز الحنبلي رحمهم الله تعالى وغيرهم ممن صارت بهم الأحساء قِبلةً لطلاب العلم من سائر الجزيرة العربية ومن بلاد فارس.