يجتهد المسلم في أداء ما عليه من عبادات.. ويسعى أن يحظى برضوان الله وجنته.. والعبادات نوعان: عبادات جوارح، وعبادات قلوب. وعبادات الجوارح.. ثوابها له منتهى بانتهاء الجارحة من العبادة، أما عبادة القلب فليس لها منتهى. فقد تكون نائماً ويسري عليك الأجر. فالقلب هو محل اليقين والتقوى، والجوارح أتباع للقلب وخدم له. وقد بلغ الصالحون من السلف ما بلغوا من مكانة وفازوا فوزاً عظيما، وسبقوا سبقاً بعيداً بإحسانهم العبادات القلبية، ومن العبادات القلبية التي تلتبس عند البعض مفاهيمها عبادة التوكّل. هذه العبادة التي يمتلئ بها قلب المؤمن بشعور ويقين بعظمة الله وربوبيته وهيمنته. وأن كل شيء محكومٌ بحوله وقوته سبحانه. والتوكّل صدق وإيمانٌ، يمنح سكينة واطمئنانا، فمنبعه ثقةٌ بالله، ودليله أملٌ يصحب العمل، وعزيمةٌ لا ينطفئ وهجُها مهما ترادفت المتاعب. وقد قيل: "متى رضيت بالله وكيلاً وجدت إلى كل خير سبيلاً". وقال بعض السلف: "بحسبك من التوسل إليه أن يعلم من قلبك حسن توكلك عليه". وآفة العبد إما من عدم الهداية وإما من عدم التوكل، فإذا جمع التوكل إلى الهداية فقد جمع الإيمان كله، ولقد جاء الأمر به في كتاب الله في سياقات متعددة، ومناسبات متكاثرة. قال تعالى: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الحي الذي لاَ يَمُوتُ وَسَبّحْ بِحَمْدِهِ). وقد جُعل التوكل شرطاً للإسلام والإيمان، فقال سبحانه: (إِن كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنْتُم مُّسْلِمِينَ).. وقال أهل العلم: دل ذلك على انتفاء الإسلام والإيمان بانتفائه. لكن البعض يغفل عنه أن تحقيق التوكل لا ينافي السعي والأخذ بالأسباب البتة. فالسعي في الأسباب طاعة لله، والتوكل على الله إيمانٌ به وتسليم له بعد أداء كل ما يرتبط بالنفس من مطلوباتٍ وواجباتٍ. وحينما ننظر في سيرة النبي صلى الله عليه وسلّم نجد أنه فعل ما عليه ثم توكّل.. إذ اختفى في الغار عن الكفار، واستخدم في غزواته الدرع، وتناول الدواء، وقال: "من يحرسنا الليلة"، وقال لصاحب الناقة "اعقلها وتوكل". فليس التوكل بإهمال العواقب، إذ ينبغي على المرء أن يجمع بين فعل الأسباب والاعتصام بالتوكل، فلا يجعل عجزه توكلاً، ولا توكله عجزاً.