وأما موافقة موضع اللات لمنارة المسجد اليسرى فذكرها عدد من العلماء، ومنهم العلامة أبو عبدالله ياقوت الحموي في معجم البلدان، وقال: السلامة، قرية من قرى الطائف، بها مسجد للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وفي جانبه قبة فيها قبر ابن عباس رضي الله عنه، وجماعة من أولاده، ومشهد للصحابة رضي الله عنهم. ثم قال: قال أبوالمنذر: ثم اتخذوا اللات، واللات بالطائف، وكانت سدنتها من ثقيف، وكانوا قد بنوا عليها بناء، وكانت قريش وجميع العرب يعظمونها، وبها كانت العرب تسمي زيد اللات وتيم اللات، وكانت في موضع منارة مسجد الطائف اليسرى اليوم. وهي التي ذكرها الله تعالى في القرآن فقال: (أفرأيتم اللات والعزى) الآية. وذكرها العلامة زكريا بن محمد القزويني في كتابه آثار البلاد، فقال: وكان في اللات والعزى شيطانان يكلمان الناس، فاتخذت ثقيف اللات طاغوتًا، وبنت لها بيتًا وعظمته وطافت به، وهي صخرة بيضاء مربعة، فلما أسلمت ثقيف بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة فهدماه، والحجر اليوم تحت منارة مسجد الطائف. وذكر العلامة أبوالمنذر الكلبي في كتابه الأصنام: وكانت - أي اللات - في موضع منارة مسجد الطائف اليسرى اليوم. وذكرها كذلك الشيخ صفي الرحمن المباركفوري في كتابه الرحيق المختوم، فقال: ثم اتخذوا اللات في الطائف وكانت لثقيف، وكانت في موضع منارة مسجد الطائف اليسرى. وذكر الدكتور جواد علي في تاريخه المفصل: ومكان بيت اللات في موضع مسجد الطائف أو تحت منارة مسجد الطائف، وقد عرف البيت الذي بني على اللات ببيت الربة. ولا ندري أكان إنشاء مسجد الطائف على موضع معبد اللات رمزًا لحلول بيت الله محل بيت الربة. انتهى. وقال الشيخ عاتق البلادي في جغرافيته: قد وردت نصوص كثيرة على أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان نازلاً في موضع مسجد عبدالله بن عباس اليوم. قلت: ولعل الطائف كانت أحياؤها يومئذ في جهة وادي مثناة ووادي وج، وكان معسكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عند مسجده هذا. وكان موضعه خارج سور قلعة الطائف التي احتمت بداخلها ثقيف، فلما بنى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مسجده هنالك، تجمع الناس من حوله، وعمرت الأحياء في مركزه، والتفت الأسواق بساحته فأصبح قلب الطائف النابض العامر على مدى القرون الماضية وحتى اليوم. وقال الشيخ محمد حسن شراب في معالمه الأثيرة: وفي الحديث: خطب النبي صلّى الله عليه وسلّم بالنباوة من الطائف، ومسجد النبي صلّى الله عليه وسلّم أيام حصار الطائف هو الموضع الذي اتخذه عبداللّه بن عباس مسجدًا، ويعرف اليوم مسجد ابن عباس، وهو في نبوة من الأرض أي مرتفع من الأرض. إنتهى. وقول الشيخ شراب: هو الموضع الذى اتخذه عبدالله بن عباس مسجدًا خطأ غير صواب؛ لأن المسجد ليس مما اتخذه عبدالله بن عباس رضي الله عنه ولا هو من أنشأه كما سبق تأصيل بنائه. ولكنه مسجد صلّى فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأمر ببنائه ههنا. وقد سبق مستندنا في ذلك من الأحاديث الشريفة ومن السيرة النبوية بما فيه الكفاية. وإنما اشتهر باسم ابن عم النبي صلّى الله عليه وسلم الصحابي الجليل عبدالله بن عباس رضي الله عنه اشتهارا. ويتلخص مما سبق: (1) إن مسجد ابن عباس رضي الله عنه بالطائف: هو مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أصالة، وقد صلّى فيه، وأمر ببنائه، وعيّن موضع بنائه لهم. (2) أول بناء له كان في سنة تسع من الهجرة الشريفة بأمر من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حيث كانت طاغية اللات، وقد أراد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بذلك أن يحل الحق محل الباطل، ويشع النور مكان الظلام، ويقام العدل محل الجور، ويمحو أثر الكفر بالايمان، ويعبد الله عز وجل حيث كان لا يعبد. (3) إنه ليس مما أسسه الإمام عبدالله ابن عباس، ولا هو من بناه رضي الله عنه إبتداء ولا هو من أنشأه كما يتوهمه العامة ويظنه الناس، بل وكما توهمه البعض من طبقة المؤرخين والكتاب. ولكنه اشتهر باسمه رضي الله عنه. (4) فضل هذا المسجد وشرفه ينحصر في كونه مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. (5) كان يسمع للعمود الذى وافق مصلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيه أزيزًا وصوتًا في كل يوم مع شروق الشمس، وذلك تكرمة الله عز وجل لهذا النبي الكريم صلّى الله عليه وسلّم ولتشريف هذا المسجد المبارك. وبعد هذا كله: لم أقف على خبر يعتمد عليه أو يستأنس به، في سبب تسمية المسجد باسم حبر الأمة عبدالله ابن العباس رضي الله عنه غير أنني أرى أن يكون سبب نسبته إليه تنحصر في أحد النقاط التالية، وذلك على سبيل الافتراض: • ملازمة الإمام عبدالله بن العباس رضي الله عنه لهذا المسجد، وصلاته فيه، لعلمه أنه مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومصلاه، فلعله كان يجلس للناس فيه للفتيا على أكثر تقدير. لأنه ابن عم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وله شرف القرابة والصحبة، وهو علم من أعلام الأمة وحبر من الأحبار. وهو ترجمان القرآن الكريم ومفسره. فلا غرابة من أن يسمى هذا المسجد الشريف باسمه رضي الله عنه. وكان ابن عباس رضي الله عنه قد استوطن الطائف حتى توفي بها سنة ثمان وستين من الهجرة. وكان قد سئل عن اختياره الطائف على مكة شرفها الله، فقال: ما لي ولبلد تضاعف فيه السيئات كما تضاعف الحسنات كما ذكرها العلامة بدر الدين الزركشي في كتابه إعلام الساجد في أحكام المساجد. • سكناه إلى جوار هذا المسجد. • دفنه الى جواره: لأن المسجد كان اسمه مسجد الطائف، فسمي به لقرب مرقده منه كما سمي كثير من مساجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأسماء بعض الصحابة بالمدينة الشريفة في حين أنهم لم يكونوا قد بنوها أصلاً، وكذلك الحال بالنسبة لهذا المسجد. • قيامه رضي الله عنه بإعادة تعمير هذا المسجد أثناء إقامته بالطائف، بعد أن تضعضع بناء النبى صلّى الله عليه وسلّم له فنسب إليه، وهو الأرجح عندي. لأنه ورد في صحيح الإمام البخاري - رحمة الله عليه - حديثًا نصه: يا عبد الملك: لو رأيت مساجد ابن عباس وأبوابها؟ فقال في شرحه المحدث العلامة محمد أنور الكشميري، في كتابه فيض الباري شرح صحيح البخاري: إن عبدالله ابن عباس رضي الله عنه سكن في مواضع عديدة فلا تعجب من تعدد مساجده. انتهى. فاحتمال تعميره لهذا المسجد أثناء إقامته بالطائف وارد. ولا سيما فإن رواية الإمام البخاري في صحيحه عن أبواب مساجد ابن عباس رضي الله عنه جاءت بصيغة الكثرة ما يدل على قيامه ببناء أكثر من مسجد في مواطن شتى، كما فسرها العلامة الكشميري في فيض الباري. وكونه جدد عمارة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالطائف من باب أولى، حيث لم ينسب هذا المسجد إلى عثمان بن أبي العاص الثقفي رضي الله عنه الذي أمره رسول الله صلّى الله عليه وسلم ببنائه، ولم ينسب كذلك إلى عمرو بن أمية الذي قام ببنائه أول ما بنى. ولكنه نسب إلى ابن عباس رضي الله عنه تخصيصًا لهذا السبب ثم لشرفه وقرابته وصحبته، ولمكانته العلمية. ولقد دفن ترجمان القرآن عبدالله بن العباس رضي الله عنه في مؤخرة هذا المسجد ومعه بعض قرابته؛ ومنهم سيدنا محمّد بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه المعروف بابن الحنفية لأنه كان مقيمًا بالطائف، وهو الذي صلّى على ابن عباس رضي الله عنه حين توفي سنة 68 من الهجرة الشريفة. وأما كون ابني النبي صلّى الله عليه وسلّم القاسم وعبدالله مدفونان بالطائف إلى جانبه فهو أمر يحتاج إلى بحث ومراجعة. على الأرجح أن قبورهما بالحجون بمكةالمكرمة وليس بالطائف. وأما مقبرة شهداء الطائف التي تقع خلف المسجد فهي لعدد من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذين استشهدوا بنبال ثقيف حين رموهم بها بالطائف، فدفنهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في هذا الموضع. ومن أشهرهم: نعيم بن مسعود الثقفي رضي الله عنه الذي له سيرة في غزوة الحديبية. وكان قد وفد على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة الشريفة عقيب عودة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة من الطائف، فأسلم قبل إسلام ثقيف، ثم استأذن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يكون سفره إلى ثقيف لكي يدعوهم إلى الإسلام، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: إنهم قاتلوك، فقال يا رسول الله: إني أحب إليهم من أبكارهم، وقيل من أبصارهم، وكان محبوبًا مطاعًا في قومه ثقيف، فلما عاد إلى الطائف، ودعا قومه الى ما أراده من الإسلام، رشقوه بالنبال حتى قتلوه، كما أخبره بذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقيل له: ما ترى في دمك؟ قال: كرامة أكرمني الله بها، وشهادة ساقها الله إليَّ، فليس في، إلا ما في الشهداء الذين قتلوا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل أن يرتحل عنكم، فادفنوني معهم، فدفنوه معهم. وبجانب المسجد اليوم مكتبة عامة؛ وهي من إنشاء الشيخ محمد رشدي الشرواني رحمه الله، وكان رجلاً عالمًا فاضلاً، وكان واليًا على الطائف في عهد الخلافة العثمانية، فجعل هذه المكتبة وقفًا على المسجد، لتكون منهلاً للعلم والمعرفة، ونبراسًا يستضئ به أهالي الطائف ولا تزال. ومن الأمور المتعلقة برسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالطائف: ما ذكره الإمام جمال الدين محمد المطري في تاريخه، فقال: ورأيت بالطائف شجرات من السدر، يذكر أنهن من عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ينقل ذلك خلف أهل الطائف عن سلفهم، فمنهن واحدة دور جذورها خمسة وأربعون شبرًا، وأخرى تزيد على الأربعين، وأخرى سبعة وثلاثون وكل ذلك شبرته، وأخرى يذكر أن النبى صلّى الله عليه وسلّم مر بها وهو على راحلته فانفرق جذرها نصفين يدخل الراكب بينهما، يذكرون أن ناقة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دخلت من بينهما وهو ناعس، والله أعلم بصحة ذلك، رأيتها قائمة وجذرها مفترق يدخل الراكب منه لا يلحق رأسه، وذلك سنة ست وتسعين وستمائة (696) من الهجرة الشريفة، وأكلت من ثمرها وحملت منه إلى المدينة للبركة، ثم دخلت الطائف سنة تسع وعشرين وسبعمائة، فرأيتها قد وقعت ويبست، وجذرها ملقى لا يمسه أحد ولا يغيره من مكانه لحرمته بينهم. انتهى. وأورد هذه القصة العلامة على بن برهان الدين الحلبي في السيرة الحلبية، والإمام القاضي عياض في كتابه الشفاء، والإمام زين الدين أبوبكر المراغي في تحقيق النصرة، والإمام نور الدين السمهودي في تاريخه الوفا، وأوردها الإمام القاضي أبوالبقاء صالح بن الحسين الجعفري الهاشمي المتوفي سنة (668) للهجرة الشريفة في كتابه تخجيل من حرف التوراة والإنجيل رواية عن الإمام أبوبكر محمّد بن الحسن بن فورك الأنصاري الأصبهاني الشافعي، وزاد: وبقيت السدرة على حالها إلى اليوم، وهي الآن تعرف بسدرة النبي صلّى الله عليه وسلّم ويحترمها الناس. والله تعالى أعلم.. ومن الفوائد التى تتعلق بذلك؛ لقد ذكر أهل السيرة: أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالطائف: زوجتيه السيدة أم سلمة رضي الله عنها أم المؤمنين وهي مؤكدة، واختلفوا في الثانية، فقيل هي: السيدة زينب بنت جحش رضي الله عنها، وقيل هي السيدة عائشة بنت الصديق رضي الله عنها. ولكننى عثرت خلال بحثي على خبر رواه الإمام أبو عبدالله الحاكم في مستدركه، فقال: ومما يتعجب من قضاء الله وقدره أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، بنى بميمونة بنت الحارث بسرف (موضع بقرب مكة شرفها الله) وردها إلى المدينة عند منصرفه من عمرة القضاء، وبقيت عنده إلى أن خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لفتح مكة، وقد أخرجها معه إلى أن فتح الطائف وانصرف راجعًا إلى المدينة، فماتت ميمونة بسرف، في الموضع الذي بنى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم عند زواجه منها. وفيه إشارة واضحة أنها كانت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أثناء حصار الطائف. وفي هذا الإظهار كفاية لمن أراد أن يعرف مكانة هذا المسجد وفضله، وتاريخ نشأته، ومن الذي بناه. وهناك مسجد بناه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بوادى لية من الطائف بيده الشريفة، وسبقت الإشارة إلى ذلك، والله من وراء القصد.. (*) عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية [email protected]